رحيل الأديبة فضيلة دريعي رفاعي

في عصر ذاك اليوم من صيف 1960 كنت عائداً من «حي التربيعة» داخل المدينة القديمة حيث كانت محلات والدي، وكنت في طريقي إلى منزلنا في شارع المطران في المنطقة الحديثة آنذاك، واحمل معي بعض اللوازم والأغراض المنزلية على عادتنا أنا وإخوتي في أيام العطلة حيث كنا نتناوب في نقل حاجيات المنزل من خضار وفاكهة وسواها.
وكالعادة كنت أسلك طريق «السرايا القديمة» فشارع المالية – البلدية واجتاز «جادة التل» (البولفار) من طرف إلى آخر لأصل إلى «حي المطران».
وعند وصولي إلى قبالة مبنى مالية طرابلس وتحديداً إلى زاوية المبنى الذي يقوم فيه «مستشفى شاهين»، شعرت بألم شديد في رأسي، ويبدو أني فقدت الوعي، لاسترد الوعي بعد فترة وأجد نفسي ممدداً على «كنبة» داخل محل عرفت لاحقاً انه مكتب «الرفاعي» للمعاملات العقارية والمالية إضافة إلى كتابة الرسائل والبيانات على «الدكتيلو» تلك الآلة التي انقرض استعمالها بعد انتشار «الكومبيوتر» وسواه، كما كان المكتب يتعاطى الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية وبالعكس، وهو من أوائل المكاتب التي تعاطت هذه المسائل وانتشرت لاحقاً على امتداد الشارع مع ازدياد الطلب على تصوير وإعداد المستندات المتعلقة بمؤسستي المالية والعقارية وباقي الدوائر الحكومية والبلدية.
ولا بد ان أنعش ذاكرة أبناء جيلي ومن كان يكبرني في السن إلى «شيء» أو خزانة حديدية مكعبة الشكل يبلغ طول ضلعها حوالي 50 سم مثبتة بالحائط على ارتفاع حوالي متر ونصف متر عند مدخل مكتب «الرفاعي» من الجهة الخارجية.
هذا الشيء الناتىء من الحائط هو عبارة عن صندوق بريدي وكان ينتشر في بعض الشوارع الرئيسة في المدينة، ويقصده الناس لوضع رسائلهم البريدية فيه، تجنباً للانتقال إلى مركز البريد الذي كان قائماً في بناية «حتي» التي أزيلت وبني مكانها بناية «هنا سنتر»، كما انتقل البريد إلى جوار السرايا ولاحقاً انعدمت هذه الوسيلة – البريد وتم الحاقها بالقطاع الخاص.
ربما أطلت، ولكن كان لا بد من هذه المقدمة لأشير إلى السبب الذي أحاط بمسألة معرفتي الأولى بالسيدة الأديبة والكاتبة القصصية فضيلة الدريعي الرفاعي التي «طوت» صفحات عمرها منذ أيام ورحلت، وخلفت وراءها «ذاكرة» محفورة في تاريخ طرابلس والشمال وفي نتاج المبدعين من كتاب وشعراء وأدباء ومفكرين وكانت الراحلة من أبرز تلك الأسماء التي طوى الزمن غالبيتها.
فعندما استعدت الوعي داخل المكتب أدركت حقيقة ما تعرضت له، من جراء ارتطام رأسي بذلك الصندوق الحديدي، بينما كنت أسير حاملاً الأغراض المنزلية بيد، وباليد الأخرى كنت ممسكاً بإحدى القصص الخاصة بالأطفال وأبناء جيلي أطالع وأتابع ما تتضمنه من أحداث على غرار الهوايات التي كنت أتابعها أنا وإخوتي وهي المطالعة حتى أثناء المشي وقطع الطرقات!!
يومها لم يسل الدم من رأسي لكن السيدة الرفاعي التي كانت أحياناً تتواجد في مكتب زوجها، سارعت إلى معالجة النتوء أو «الدنكورة» التي كان من الطبيعي ان تظهر في مكان ارتطام رأسي بصندوق البريد.
وبالطبع قصد والدي مكتب الرفاعي في اليوم التالي شاكراً ما قام به وزوجته من اعتناء واهتمام بالحادث الذي تعرضت له، ولأتعرف لاحقاً، إلى الحضور الثقافي والأدبي لهذه السيدة من خلال متابعتي لبعض المحاضرات والندوات التي كانت تقام في الأندية والجمعيات التي كانت متواجدة في طرابلس، ومنها «النادي الثقافي العربي» في «بناية عدرة» بجوار «بناية الغندور» وفي «النادي العربي»، وأحياناً في «نادي موظفي مصفاة طرابلس»، أو في مدارس: «دار التربية والتعليم الإسلامية» و«الفرير» و«الطليان» وغيرها.
كانت المناسبات قليلة وفق تلك المرحلة في نهاية ستينيات ومطلع سبعينات القرن المنصرم، من عيد العمال إلى عيد العلم والمعلم، فانعقاد «المطارحات» الشعرية والمطالعات العلمية والأدبية، وكانت السيدة الرفاعي من بين متابعيها أو المشاركاين في موضوعاتها إلى جانب إعضاء «الرابطة الأدبية الشمالية» التي كانت أحد أبرز أعضائها ومنهم حسيب غالب، ميخائيل فرح، جورج اسحق الخوري، عبدالله شحادة، سوزان بعيني، رحمهم الله، والنقيب انطوان السبعلاني أطال الله بعمره، تلك الرابطة التي تأسست في طرابلس في العام 1937 وكان في عدادها الكتاب والأدباء والمؤلفون: يوسف يونس، جيهان غزاوي، انطوان عيسى الخوري، يوسف النعيمي وفكتور خوري، ويقول الكاتب محسن أ. يمين ان أدباء الرعيل الثاني قد تقاطروا للانضمام إلى هذه الرابطة ومنهم: فضيلة الدريعي الرفاعي، سوزان بعيني، جوزيف طوبيا، د. عبدالحميد جيدة، مارون عيسى الخوري، فؤاد دعبول، د. مصطفى علم الدين، انطوان القوال، وعبدالهادي شلق.
وتوالت نشاطات وفعاليات «الرابطة» في طرابلس كما في قضاء زغرتا – الزاوية في بلدات «تولا» و«سبعل» وفي قضاء الكورة وأقيمت المهرجانات الأدبية كالمهرجان التكريمي للشاعر الياس أبو شبكة، وتتابعت اجتماعات الرابطة في مكتبة الشبيبة لصاحبها انطوان عيسى الخوري وفي المقر الأول لمكتبة مخائيل فرح في السرايا القديمة بطرابلس، وبعد ان ضاق المكان برواده من مفكرين وشعراء وأدباء وزوار، عمد فرح إلى نقل مكتبته إلى مقرها الجديد في «بناية الصفدي» ليس بعيداً عن مكتب الرفاعي، فازداد الزوار والأعضاء وبينهم: الشيخ أنور بكري، الأب طانيوس منعم، خليل روكز، أسعد السبعلي، ميشال قهوجي، يونس الأبن، ميشال عاصي وميشال سليمان، وتكبر اللائحة وتطول في حال تعداد أسماء كل الزوار من طرابلس والشمال وبقية المناطق اللبنانية، واغتنت وأغنت فضيلة الدريعي الحلقات الأدبية التي أضحت اجتماعاتها يومية.
وهذا الزخم في اللقاءات والاجتماعات والمنتديات تزامن مع تزايد الكتابات والمواقف في الصحف المحلية بطرابلس والشمال من قبل أعضاء «الرابطة الأدبية»، ومن بينهم فضيلة الدريعي التي كتبت المقالات و«الزوايا» الأدبية والفكرية في «الرقيب» و«المستقبل» و«الأفكار» و«صدى الشمال» وباقي الصحف والمجلات التي كانت تصدر آنذاك في طرابلس والشمال إضافة إلى «السلوى» المهجرية.
وتناولت الرفاعي في كتاباتها ومقالاتها القضايا الاجتماعية والوطنية إلى جانب شؤون الأسرة وموضوعات في الأدب والسياسة والثقافة وحقوق الانسان والشعوب وامتازت بالجرأة في إعلان المواقف والتعبير عنها بلغة سلسة، كما اشتهرت بكتابة القصة القصيرة ذات المغزى الوطني والاجتماعي.
ولكن سرعان ما تدهورت الأوضاع المحلية في طرابلس والشمال في مفتتح العام 1975 لتطل معه الأحداث المؤسفة التي هدفت إلى تأجيج الصراعات والاشتباكات بين أبناء الشمال بمختلف طوائفهم وأحزابهم على غرار بقية المناطق اللبنانية لادخال البلاد في أتون «الحرب الأهلية» التي امتدت «نظرياً» على مدى عامين، وفي الحقيقة ما تزال تردداتها وانعكاساتها ماثلة إلى اليوم وتطل بـ «رأسها» كلما عصفت أزمة سياسية في البلد.
وفي مسلسل العنف الذي عصف بطرابلس والشمال آنذاك حصلت عدة أحداث دامية، هنا وهناك، في محاولة لاستجرار ردود الفعل الطائفية بين الأهالي والمناطق، منها اغتيال الأديب والشاعر مخائيل فرح ابن بلدة تولا بقضاء زغرتا، الذي مرّ ذكره سابقاً، أمام مكتبته (الثقافة الجديدة).
وكان ذلك في 13 كانون الأول 1975 دون ان تشفع له علمانيته التي أبعدت عنه خوفاً غشى الناس جميعاً، بل ماركسيته التي ضجت بها الكتب في بعض رفوف مكتبته، كما جاء في مقدمة ديوانه الذي نُشر في العام 1994.
يومها أصاب الهلع مختلف الطرابلسيين وخاصة هؤلاء الذين عرفوا المغدور مخائيل فرح ابن تولا 1927. والذي وضع مكتبته ومحتوياتها العلمية والأدبية والثقافية بتصرف أبناء طرابلس وأهالي المناطق الشعبية بصورة خاصة.
آنذاك، كنت قد باشرت الكتابة في صحف ومنشورات ومطبوعات عديدة منها: جريدة «اللواء»، جريدة «النداء»، إضافة إلى صحيفة «الوطن» التي أصدرتها «الحركة الوطنية» في العاصمة، وساهمت في إصدار «الأخبار الشمالية» عن «الحزب الشيوعي اللبناني»، كصحيفة شبه يومية للتعويض عن انقطاع الصحف والجرائد البيروتية عن الوصول إلى طرابلس والشمال بسبب الحواجز على الطريق الساحلية، وانقطاع طريق عكار – البقاع بسبب تراكم الثلوج.
يومذاك، توجب عليّ البحث عن شخص أو أكثر من أدباء طرابلس بامكانه ان يزودني بأعداد من مجلة «الرابطة الأدبية الشمالية» التي كان فرح يكتب فيها وينشر بعض قصائده.
وقصدت لهذه الغاية الأديب مارون عيسى الخوري فوجدته في غاية الارتباك والاضطراب والقلق من جراء هذه الحادثة التي أودت بحياة صديقه وزميله في الرابطة والذي اعتاد ان يلتقي به يومياً على مدى سنوات طويلة.
وعندما أبلغني مارون بأنه لا يملك شيئاً من أعداد هذه المجلة، كدت أصاب بالإحباط، غير انه أشار عليّ ان أزور الكاتبة فضيلة الدريعي الرفاعي، وكان منزلها في بناية «الأطلال» على مقربة من منزلنا العائلي الذي انتقلنا إليه حديثاً في «شارع قاسم العماد» في منطقة «معرض رشيد كرامي».
وقمت بزيارة السيدة الرفاعي وعرّفتها بنفسي وذكرتها بالحادثة التي سبق ان تعرضت لها وأنا صغير وكيف عملت على مداواتي، فاستردت صفاء الذهن بعد ما اعرتاها من معالم الأسى والأسف على اغتيال زميلها في الرابطة.
وتسلمت من الأديبة الرفاعي بعض الأعداد من تلك المجلة واستفدت منها بالحصول على معلومات أفادتني في كتابة مقالة صحافية مطولة. وأعدت بعد أيام هذه الأعداد إلى صاحبتها وصادف ذلك ان شخصاً معيناً قد تمكن من إطلاق النار على قاتل فرح وأرداه قتيلاً.
والملفت أن الصديق عمره المهندس حسيب غالب (1912-1976) ابن أردة – قضاء زغرتا وأحد أبرز مؤسسي «الرابطة الأدبية الشمالية» لم يستطع تحمل فراق صديقه مخائيل فرح، فبعد أقل من سنة على تلك الفاجعة، قضى غالب نحبه.
وبعد فترة زمنية قصيرة تعرض نقيب معلمي المدارس الخاصة وأحد أعضاء الرابطة انطوان السبعلاني من بلدة سبعل – قضاء زغرتا إلى «مضايقة» من نوع آخر، وهي »فصله« من التدريس في مدرسة الفرير – بطرابلس على خلفية «نصف» بيت شعري قاله السبعلاني وجاء فيه «قلبي وقلب العالمين يسار». فأثار ذلك الشجون لدى أعضاء «الرابطة الأدبية» وفي مقدمهم الكاتبة فضيلة الرفاعي، ومحبي الرابطة و«المنحازين» إلى حرية الكلمة.
وكنت من أكثر الصحافيين متابعة لموضوع الدعوى التي أقامها السبعلاني ضد إدارة «مدرسة الفرير»، وكان محاميه الدكتور محمد نديم الجسر.
ولا بد من الإشارة إلى ان الكاتبة فضيلة الرفاعي قد انتسبت إلى «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» منذ تأسيسه في العام 1970 وساهمت في تعزيز دور المجلس وموقعه في الحياة الثقافية في طرابلس والشمال إلى جانب الرواد الأوائل من أعضاء الهيئتين الإدارية والعامة في المجلس الذين شكلوا «رافعة» هامة لرفد الثقافة المحلية بالطاقات والامكانات إلى جانب الأفكار والرؤى.
وفي كتابه «الأدب القصصي في لبنان الشمالي» والصادر عن مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية والمجلس الثقافي للبنان الشمالي، أفرد الدكتور نزيه كبارة فصلاً للدراسة عن قصة قصيرة للكاتبة والأديبة فضيلة الدريعي الرفاعي بعنوان «الصفعة» نشرت في العدد الأول من مجلة «السراج».
وجاء في الدراسة المرفقة مع القصة «انها إن لم تكن واقعية، فمن المحتمل وقوعها في مجتمع مستهتر لا يتقيد بالضوابط الأخلاقية، في زمن كانت بعض خادمات البيوت من اللبنانيات، أما اليوم فهن من الأجنبيات، من بلدان فقيرة ومتخلفة، ولا تحديد للزمان وللمكان في القصة القصيرة التي نحن بصددها».
والقصة موضوعها اجتماعي: فيها الفقر الذي يدفع بوالد الفتاة الطفلة إلى العمل كخادمة في المنازل مقابل أجر يتقاضاه هو، وفيها ان والدتها توفيت ولم تعرف، ولم يخبرها والدها، وفيها انها كانت تبيع جسدها، وأصبحت لاحقاً غانية، وفيها تحول حسان الذي كانت تحبه لمعاملته الحسنة لها، مع الزمن إلى نذل كالآخرين.
فمن الوصف الذي كانت الكاتبة تجيده ما جاء في مطلع الأقصوصة:
«كان الغروب على وشك الرحيل، والشمس تركت وراءها أطياف ضوء هاربة خلف غيوم، تطرز صفحة السماء برسوم رائعة، والأفق الشاحب يبعث برذاذ يغسل الأرض بنداوة منعشة. وبدت أشجار عارية يحاصرها مساء خريفي يغص بالصمت، ليس ما يبدد السكون سوى وقع خطواتها فوق الرصيف».
كما لا تخلو القصة من الحوار الحي والذي لا يقطع إنسياب السرد والتشويق بلغة واضحة مشرقة وفصيحة وبأسلوب جميل.
بغياب فضيلة الدريعي الرفاعي، خسرت طرابلس وعموم الشمال ولبنان عامة كاتبة وأديبة من الطراز الرفيع وافتقدتها أندية ومحافل ومنتديات ثقافية حيث كانت لها من على منابرها وقفات وإطلالات كما الصحف والمجلات التي كتبت فيها المقالات الأدبية والفكرية والاجتماعية.