طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

من كعب الدست

كان والدي، رحمه الله، نادراً ما يتكلم، وكان شحيحاً في سرد تاريخه وتاريخ عائلته، لكنه في بعض الأوقات، في لحظات من بعد صلاة الفجر، كان يغمض عينيه ويفتحهما ويصفن وهو يحدق في الفراغ، ثم يروي نتفاً من روايات تبدو كأنها قصص ما قبل التاريخ. يقول مثلاً بأن الرجال اختفوا من القرية، أخذهم العثملي إلى الحرب، أما الأطفال فقد جمعهم أحد العجائز في خربته يُطعمهم ما تيسر لمحاولة ابقائهم على قيد الحياة. اتركوا لي حصتي من الحريرة (نوع من الطعام) في قاع القدر، يبتسم والدي وهو يشرح بأنه يستطيع بهذه الوسيلة ان يحصل على بعض اللقمات الزائدة بعد ان يمسحها بأصابعه من قاع القدر.
تروي الحاجة أم محمود، رحمها الله، قصة عن طفولتها، تزيّن وجهها ابتسامة البسطاء، الذين نجوا من المجاعة التي ضربت لبنان إبان الحرب الأولى، تتذكر كيف حملوا الأطفال على الحمير من قرى الضنية المقحطة إلى سهول عكار، لكي يقتاتوا على الأعشاب التي تنبت في السهل وينجوا من المجاعة.
هل يكرر التاريخ نفسه بعد حوالي مئة سنة وزيادة، هل سيتعرض أبناء هذه الأرض إلى المجاعة مرة أخرى؟ أم ان الزمن تغير وقد يمرون بفاقة وعجز ولكن لن يموتوا من الجوع؟
يشبه لبنان الحالي جيفة ملقاة على تقاطع طرق يحرقها ضوء شمس ساطع. تتناتشها بعض ضباع ضالة ويدور في حلق السماء فوقها مجموعة نسور ينتظرون دورهم في حصة من اللحم المعفن. وتزحف على جوانبها الحشرات تمتص سوائل جافة. ويطن فوقها الذباب ولكن لا أيادٍ تهشها ولا آذان تدفعها.
فعلى ماذا يتصارع المرشحون؟ إذا كانت خزائن الدولة قد فرغت، وعملتها قد انهارت، ومؤسساتها قد أُغلقت، وأي كلام يدور حول الاتفاق مع «صندوق النقد الدولي» لا يتجاوز حدود المليارات الأربعة مع شروط ستفاقم جوع الناس وفاقتهم. لا بد ان هناك شيئاً لا نعلمه يُبقي الثقة بهذا البلد وهذه الدولة. ربما يريدون ان يبيعوا ما تبقى من أرض وثروات ويتقاسموها كما العادة. أو ربما يريدون ان يتاجروا بنا وبقضايانا وأهم شيء هو ان يمنعونا من مغادرة الوطن بشكل رسمي او هرباً.
على الأغلب، نحن واياهم، أي المرشحين، مصابون بانفصام في الشخصية. ندرك بأننا أمام انهيار تام وشامل ولكننا نصر على التزعم والوجاهة. ندرك بأننا قد لا نملك بنزيناً نعبئ به سياراتنا ولكننا نريد النمرة الزرقاء لنتصور بجانبها. ندرك بأن لا كهرباء ولكننا نشتري المزيد من الآلات التي تعمل بالكهرباء. ندرك بأن الماء سيشُّح ولكننا نُفرغ خزاناتنا. ندرك بأن لا جوازات ولكننا نستعد للسفر. ندرك بأن الطنجرة فارغة ولكننا نقرع بأيدينا في كعب الدست.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.