بعد تهديد الحريري بفعل ذلك ثم تراجعه محاولاً معالجة التداعيات البحصة لم «تُبَقّ»… وتفتيتها يبدو صعباً

لم يسبق أن وصلت العلاقة بين «تيار المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية» إلى الدرك الذي وصلت إليه خلال الأسابيع القليلة الماضية، علماً أن محاولات جدية تجري حالياً لرأب الصدع، وهي لم تصل بعد إلى نتائج ايجابية مؤكدة.
وهذه العلاقة كانت قد بدأت قويةً بعد 14 شباط 2005، وتمتّنت في الانتخابات النيابية لذلك العام، عندما رافق سعد الحريري، الشاب الداخل حديثاً الى السياسة، ستريدا جعجع القابع زوجها في سجن وزارة الدفاع في اليرزة والمرشحة عن أحد مقعدي قضاء بشري الذي كان مع الضنية وعكار في دائرة واحدة، الى مهرجان بحيرة الكواشرة في عكار، لمساندتها والترويج للائحة التي ضمّت «المستقبل» و«القوات» تحت مظلة «14 آذار».
هذه العلاقة، التي كان الحريري يردد دائماً، وخاصة في الاحتفاليات السنوية لـ 14 شباط و14 آذار وفي المقابلات التلفزيونية التي تواكب المناسبتين، أن أحداً لن يستطيع تخريبها «فلن يفرقني عن حلفائي في «14 آذار» إلا الموت»، قد تعرضت مؤخراً الى عطب كبير، فوصلت إلى وضع يبدو أسوأ من مرحلة سير «القوات» بخيار للقانون الانتخابي «الأرثوذكسي» في العام 2013، وأسوأ من مرحلة ما بعد ترشيح الحريري للنائب سليمان فرنجية في تشرين الثاني 2015 لمنصب رئاسة الجمهورية، وأسوأ من مرحلة ما بعد ترشيح جعجع للنائب (وقتها) ميشال عون، لنفس المنصب، في كانون الثاني 2016، وأسوأ من تداعيات «اللوم المازح – الجارح» الذي وجهه الحريري لجعجع في 15 شباط 2016 خلال الاحتفال بذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري (في البيال) عندما قال له: «يا ريت هالمصالحة مع «التيار الوطني الحر» يا حكيم صارت من زمان، شو كنت وفرت كتير على المسيحيين».
فما سبب التدهور الحالي، الاخطر في تاريخ العلاقة بين «الحليفين»؟
من«الاستقالة» الملتبسة الى التهديد بـ «بق البحصة»
بعد «الاستقالة» الملتبسة للرئيس سعد الحريري من الرياض، والظروف التي رافقتها، بدأت موجة من الانتقادات المتبادلة بين «المستقبليين» و«القواتيين» تنتشر مرتدية طابع الهمس والتلميح، لكن مع ازدياد الغموض حول مصير الحريري، الشخصي والسياسي، ورمي الاتهامات وربما تسريبها أو اختلاقها، أخذت هذه الانتقادات تتطور شيئاً فشيئاً، لتصل إلى ما يشبه «الحرب» على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ثم وصلت إلى ما يمكن اعتباره تصريحاً واضحاً عندما شدد الحريري على مسألة «الوفاء» في خطابه عند استقبال مهنئيه بالعودة في «بيت الوسط»، ثم صار الكلام أكثر وضوحاً عندما أعلن رئيس الحكومة، خلال استقباله في منزله وفداً من منسقية بيروت في تيار «المستقبل»، ما يلي: « لقد مررنا بأزمة صعبة، هناك من أراد ان يستغل علاقتنا المميزة مع المملكة العربية السعودية، للإساءة لي شخصياً. هناك أحزاب سياسية حاولت ان تجد مكاناً لها في هذه الأزمة من خلال الطعن بالظهر وأنا سأتعامل مع هذه الحالات كل حالة على حدة (…) على كل حال سأسمي الأشياء بأسمائها في برنامج «كلام الناس» مع مرسال غانم وسأبقّ البحصة، وهي بحصة كبيرة، بالطبع جميعكم تعرفون من حاول طعننا في الظهر».
والمقصود من كلام الحريري انه سيقول كل شيء خلال مقابلته في «كلام الناس»، والتي كان قد حُدِّد موعد لها في 21 كانون الأول الجاري، فتكون هذه المقابلة الشعرة التي تقصم البعير، أو قطعاً لشعرة معاوية المتبقية في العلاقة المأزومة مع «القوات».
احمد الحريري: «ماذا حصل مع جعجع في السعودية؟»
لم يقف الموضوع عند هذا الحد، فأتت المقابلة التلفزيونية، التي ظهر فيها أمين عام تيار «المستقبل» أحمد الحريري عبر تلفزيون «الجديد»، لتزيد من اشتعال الأزمة بين الطرفين. فلقد قال الحريري حرفياً للإعلامية سمر أبو خليل عبر برنامج «الحدث» إن «هناك علامات استفهام كبيرة مع «القوات اللبنانية» بشأن الأداء الحكومي ونحن بحاجة للأجوبة، ونحن نريد أن نعلم ماذا حصل مع الدكتور سمير جعجع بشأن زيارته للسعودية. اللقاء بين الرئيس الحريري وجعجع قد يحصل في أي لحظة (…) أما الوزير السابق أشرف ريفي فخدم بمواقفه خلال الأزمة «حزب الله» والبعض مثل ريفي وغيره كانت «زوادتن» من سعد الحريري باعوها واشتروا بها خناجر لطعنه».
هذه المقابلة استدعت فوراً رداً قاسياً من رئيس جهاز التواصل والإعلام في حزب «القوات اللبنانية» شارل جبور: «لا نقبل أن نكون موضع تشكيك من أحد، وما سمعه الدكتور جعجع في السعودية هو نفسه الذي كان سمعه الرئيس الحريري مراراً وتكراراً منذ أكثر من ستة أشهر إلى اليوم، وإذا كان «المستقبل» لا يريد الاستماع فهذه مشكلته، ولكن لا يحق له إطلاقاً رمي الاتهامات جزافاً لارتباطات معينة أو لحرف النقاش السياسي. ولن نسمح لأحد بالتطاول على «القوات اللبنانية»، ولن نسكت عن أيّ اتهامات باطلة وتضليلية، وإذا اهتزت علاقة «المستقبل» بالمملكة فعليه مراجعة مساره ومسيرته بدلاً من تحميل المسؤوليات لغيره، وعلى حدّ علمي لم يطلب الحكيم أي موعد من الرئيس الحريري، ومن قال إنّ الحكيم يريد رؤية الشيخ سعد؟».
كذلك رد وزير الصحة غسان حاصباني على أحمد الحريري قائلاً «إن هناك محاولات سابقة لجر «المستقبل» إلى مكان آخر وحتى اليوم هناك تساؤلات لدى جمهور المستقبل: أين أصبحت مبادىء الحرية والسيادة وأين نحن ذاهبون، واليوم من حق «القوات» ان تسأل لماذا هذه الهجمة من مصادر مقربة من الحريري عليها، وما هدفها؟».
من جهته، علّق منسق عام هيئة الشؤون الاعلامية في «تيار المستقبل» عبد السلام موسى على ردّ جبور على احمد الحريري، وقال في بيان: «يبدو ان السيد جبور قد قرأ تصريحات الأمين العام لـ «تيار المستقبل» احمد الحريري بالمقلوب، وهو لم يرَ أية إيجابية بقوله: «ان كلام الرئيس سعد الحريري عن الطعن بالظهر، لا يقصد «القوات» ولا الدكتور سمير جعجع، وان «تيار المستقبل» يعمل على قاعدة التوافق السياسي وليس على قاعدة الاشتباك السياسي مع «القوات» او غيرها». أما اذا كان السيد جبور قد استثارته مطالبة الأمين العام أحمد الحريري بتوضيحات عن المرحلة الماضية، فإن هذه الاستثارة لا تراعي ترشيد العلاقات إذا كانت تحتاج الى ترشيد، ولا التأكيد عليها إذا كانت المرحلة تتطلب مثل هذا التأكيد وفي سائر الأحوال، سنعتبر ردة فعل السيد جبور كأنها لم تكن، لأن العلاقة مع القوات أوضح وأعمق من أن تعالج بالصراخ».
تراجع الحريري
وفيما كان السجال يدور بين الفريقين على خلفية مقابلة أحمد الحريري، كان الرئيس سعد الحريري يخطو خطوة إلى الوراء في ما يتعلق بالتراشق الخفي والعلني مع «القوات»، وفي ما يتعلق تحديداً بمسألة «بق البحصة» التي كان أعلن عنها خلال استقباله «المستقبليين» البيروتيين.
وقد سُئل عن هذا الموضوع خلال حوار أجراه مع معهد «كارنيغي للشرق الأوسط»، وإذا ما كان «حلفاء البارحة قد اصبحوا أعداء اليوم وأعداء البارحة قد اصبحوا حلفاء اليوم؟»،فأجاب: «بصراحة، كنت أتحدث مع مجموعة من الشباب البيارتة وقلت أنه في يوم من الأيام سأجري مقابلة مع مرسال غانم، ولم أحدد الموعد، وأني سأتحدث عن كل الأمور بصراحة. واليوم مع كل وسائل التواصل الاجتماعي بات بإمكان كل شخص أن ينقل ما يريد عبرها. أما فيما يتعلق بتحالفات البارحة التي أصبحت عداوات اليوم، فإني لا أعتقد ذلك. إن مهمتي اليوم هي أن أجمع اللبنانيين، والتحدي الأكبر الذي أواجهه أنه خلال هذه الأزمة كل الأطراف اللبنانيين أرادوا عودتي (…) وأؤكد أن هذه القصة التي تتعلق بالحلفاء والأعداء ليست بالمسألة الصحيحة».
واعتُبر هذا الجواب من قبل الرئيس الحريري نوعاً من تبريد الأجواء مع «القوات»، وبمثابة إلغاء عملي للمقابلة مع «كلام الناس»، وقد جاء هذا التبريد نتيجة مساعٍ خارجية وداخلية، دولية وعربية ولبنانية، لتجنب الدخول في متاهة الاتهامات المتبادلة، التي قد تشمل أطرافاً عديدين وقد تكون محرجة لدول وأحزاب وأفراد، وقد تكون مؤذية للتسوية المتجددة التي حصلت مؤخراً وكان عنوانها «النأي بالنفس من قبل الحكومة اللبنانية بكل مكوناتها السياسية». وقيل إن تلك المساعي طرحت سؤالاً هاماً هو: «إذا افترضنا أن هناك متأمرين، فمع من تآمروا، وهل هناك مصلحة في فتح هذا الملف في هذه اللحظة الصعبة».
واستمرّ تراجع الحريري عن موقف «بق البحصة»، فقال امام وفد «إتحاد جمعيات العائلات البيروتية»: «نشهد اليوم تركيزاً على بعض حلفائنا، سواء كان القوات اللبنانية أو الكتائب، لكني أرى أن الإعلام يضخم الأمور أكثر مما يفترض، ونحن لدينا علاقات جيدة مع القوات، بالتأكيد نتمنى أن تكون أفضل، وهم أيضا يتمنون ذلك، هناك بعض الأمور التي تحتاج إلى توضيح وسيصار إلى ذلك».
إشارات إيجابية
كذلك، على هامش جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، أرسل الحريري إشارات إيجابية ل «القوات» خلال دردشة بينه وبين وزير الاعلام ملحم رياشي، مؤكداً حرصه على علاقة جيدة مع «القوات» وان يتوقف السجال وان تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي من خلال قنوات الاتصال القائمة. وفيما تلقت «القوات» هذا الكلام بإيجابية إلاّ أنها بقيت على «رفضها للجو التشكيكي والتخويني لما تتعرض له».
علوش على الخط
أما في ما يتعلق بالتواصل بين الفريقين فلقد عُلم ان الرئيس الحريري قد كلف النائب السابق مصطفى علوش التواصل مع رئيس «القوات» سمير جعجع، نظراً للعلاقة المتينة التي تربطه به، ولأنه من مخيم المتحمسين للتحالف الدائم مع «القوات»، إضافة إلى كون الوزير غطاس خوري الذي كان صلة وصل أساسية بين الحريري وجعجع، قد انخرط مؤخراً بشكل كبير في مناخ السجالات التي كانت حاصلة بين الفريقين (تغريدة اللوحة اللوترجية التي يقبل فيها يهوذا الاسخريوطي السيد المسيح فيما كان يخونه، وعلق خوري عليها كاتباً: « هذه اللوحة قررت إهداءها الى من كنت اعتبره صديقاً علها ترشده في مهماته الجديدة». وقد خففت مشاركة خوري في هذه السجالات من إمكانية تأثيره في تحسين العلاقة بين الفريقين ، على الرغم من مساعٍ جدية ما زال يحاول القيام بها بين الحين والآخر.
زيارة فرنجية لـ «بيت الوسط»
في المقابل جاءت زيارة النائب سليمان فرنجية لـ «بيت الوسط»، والكلام الذي قاله بعد انتهاء اللقاء، ليشغل بال جعجع مجدداً، خاصة ان التداول الانتخابي بين «القوات» و«المردة» لم يصل بعد إلى نتائج حاسمة، فيما تحالف «القوات» و«التيار الوطني الحر» انتخابياً يبدو مستبعداً، لذلك شعر جعجع بشيء من «النقزة»، خاصة عندما قال فرنجية «دولة الرئيس ونحن متفقون على أغلبية الأمور ولن نكون بعيدين عن بعضنا أبداً في الانتخابات»، وقال أيضاً: «لغاية الآن لسنا بجو تحالف مع «القوات» نحن بجو حوار ولا زلنا في إطار جوجلة الأمور».
الرئيس بري «الخبير»
أخيراً، هل تم تفتيت البحصة التي كان الرئيس الحريري قد هدد «ببقها» أم تم تأجيل هذا «البق»؟ وإذا كان القرار تفتيت البحصة، هل ما زالت تواجه هذه العملية صعوبات جدية على أكثر من صعيد، وأكبر دليل العوائق التي تحول دون حصول لقاء بين الحريري وجعجع، علماً أن الأخير لم يقم بعد بتهنئة الأول على سلامة العودة من «رحلة الاستقالة الغامضة».
لكن، لعل أظرف جواب عن هذا سؤال «بق البحصة» جاء كالعادة على لسان رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي أعرب أمام زواره عن «تقديره للأسباب التي حالت دون أن يبق الحريري البحصة» وأضاف: «في العادة إن علاج البحصة يتم إما بالتفجير وإما بالتفتيت، ويبدو انها قد تفتت وإسألوني أنا ولا تسألوا حكيم، لأنني أنا خبير في البحص».