كَمُّ الأفواه عن الانتقاد البنّاء طعن لمبادىء الديمقراطية وحرية الكلمة
كعادتي بين فترة وأخرى، كنتُ أقلب صفحات مجلد «التمدن» للعام الماضي، فلفت نظري ما نشرته «التمدن» الغراء في عددها 1602 المؤرخ في 1/8/2018 مفاده:
«إن مصادرة الحريات مؤشر سيء على ديمومة لبنان، لأنه مخالف للدستور اللبناني والقوانين الوضعية».
واستطردت بالخط العريض:
«مذكرات جلب واعتقال، غرامات، قفل حسابات، استجوابات اعتباطية، أحكام غير عادلة حتى أصبحنا جميعاً في دائرة الخطر، نقف في مواجهة المقصلة، ومقص الرقابة يقترب من رقابنا واحداً تلو الآخر».
الإنسان حر حتى في إختيار عقيدته ودينه
وذكرت «التمدن» عن أحد النشطاء: «إن التنفس أصبح ممنوعاً في لبنان!! رئيس الجمهورية بشرٌ مثلنا يحق لنا انتقاده إذا أخطأ».
أجل، كل ابن آدم خطّاء، وحرية الفكر والكلمة منحتها شرائع السماء لابن آدم حتى في اختيار عقيدته ودينه، والله جل جلاّله هو الذي يفصل بين الناس:
– }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{،
– }أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ{ (صدق الله العظيم).
لا شك أن الحرية ليست مُطْلَقَة، وحتى لا تتحول إلى فوضى، فإنها مقيدة بالأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة، فلا ذم ولا قدح، ولا بذاءة ولا سفاهة ولا احتقار لأحد، بل حكمة في الأداء وحنكة في التعبير:
– }وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا{،
– }وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا{،
تلك هي الحرية المشروعة.
منع الحرية سلب لإنسانية الإنسان
هي كالماء كالهواء لا غِنى لأحد عنها ضمن هذه الأطر، فإذا سُلبت من أي فرد في المجتمع فقد سُلبت إنسانيته ومداركه ومواهبه وكرامته وإرادته وفكره ومشاعره وعندما تؤدي الحرية بأُطرها المشروعة يكون الانتقاد بنّاءً واختلاف الرأي لا يُفسد الوِد.
لا يعتمدُ كمُّ الأفواه إلاّ الطغاة
تلك الأسس لا بديل عنها، وإذا اعتُمدت لا يمكن ان يجنح أحد إلى كمَّ الأفواه ومناصبة أصحاب الكلمة الحرة العداء، ولا يُقدم على هذا أصلاً إلاّ الطغاة الذين سرت الديكتاتورية في عروقهم مسرى الدماء ولا يرقبون لحقوق البلاد والعباد إلاّ ولا ذمة.
فيا أيها الحاكم المسؤول – أي حاكم في أي دولة أو وطن –، إن المواطنين الذين رفعوك إلى سدة الحكم من حقهم ان يطّلِعوا على تصرفاتك وتحركاتك فيُحاسبوك إذا أخطأت ويباركوا مسعاك ويؤيدوك إذا أصبت،
قاعدة
وهنا قاعدة دينية نصها:
«الإثم ما حاك في نفسك وكرهت ان يطّلع عليه أحد»،
فإذا كان المسؤول يمارس عملاً فيه إثم وانتقاص من سيادة الوطن وحق المواطنين فلا شك انه يكره ان يطّلع عليه أحد وتلك الطامة الكبرى والبلية العظمى وعندها يستعمل الشعب حقه في المساءلة والمحاسبة وأحياناً بشكل عنيف.
الخليفة الراشد الفاروق عمر
هذا نهج شريعتنا الغرّاء، شريعة صاحب حراء صلى الله عليه وسلم، اتخذها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، نهجاً في مسيرته السياسية، فقد كان يخاطب الشعب بقوله: «من رأى منكم فيَّ إعوجاجاً فليُقَوِّمه» يدعوهم لمحاسبة الحكام مهما علا شأنهم، وأكثر من ذلك فكان يدعو الناس إلى الجهر بكلمة الحق قائلاً: «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها».
لا لـ «الثعلبية» وحكم الفرد
إن التعمية الإعلامية وسياسة «وراء الكواليس»، وتقمص الثعلبية وان تكن غرابيب سود، كل هذا يعني حكم الفرد وفيه انتقاص لحق الشعب وسيادته في وطنه، ولا يظنن أي مسؤول انه يُعفى من المساءلة.
الألوهية لله وحده
إن ألوهية الكون لله وحده، جل جلاله، ولا يشترك معه أحد، وهو وحده، سبحانه، لا يُسأل عما يفعل، فليعترف الإنسان ببشريته وليلزم حده وليعلم بأنه يُخطىء ويُصيب مهما علا شأنه وعزَّ سلطانه، وان الاعتراف بالخطيئة فضيلة وليتقبل النُصح،
وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وذمَّ الذين يسيئون لوطنهم وأمتهم ويتاجرون بدينهم وعقيدتهم:
– }وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا….. أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ{،
– }غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ{ لعناً كبيراً.
كتبنا من 28 سنة في «التمدن» بتاريخ 6/11/1991
وكم كتبنا في «التمدن» الغراء بهذا الخصوص ولا سيما في:
– العدد رقم 386 تاريخ 6/11/1991،
– والعدد رقم 405 المؤرخ في 25/3/1992م.
ليحرص كل مسؤول ومواطن على خدمة الوطن ووحدته
«ليبارك الله الكلمة الحرة التي تُكتب بمدار الفكر الحريص على بناء وطنٍ حر مستقِل موحد يسوده التفاهم والوئام بين كل طوائفه وكوادره، انه دليل حضارة ورقي وتقدم في ان يكون كل مسؤول ومواطن حريص على خدمة أمته ووطنه وان يتنافسوا جميعاً في هذا المضمار.
تلك المسلمات إذا طبقها أصحاب القرار كان لبنان الحضاري التقدمي الذي يُلتزم بدستوره وقوانينه حرفياً وبكل شفافية ومسؤولية.
انه لبنان الذي يتمناه كل لبناني فخور بانتمائه لوطنه، ليس هوية فقط، فإن عماد الحق ما أنت فاعل،
فإلى من تبقى من غيارى على ديمومة هذا الوطن: أعطوه الصدق والاخلاص والعزيمة في تعاونكم البنّاء للقضاء على أعدائه الوالغين في استقلاله وبقائه على خارطة العالم.
}وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{.