«التغريبة اللبنانية» في بحر طرابلس
بعد التغريبات الفلسطينية والعراقية والسورية، يأتي دور الشعب اللبناني، وإن بدت الأسباب مختلفة، فالنتيجة واحدة: هروبٌ من أرض بلا أمان ولا كرامة ولا مستقبل ولا عدل ولا حرية، إلى أرض لا يُظلم فيها أحد، كما قال النبيّ الكريم للمهاجرين الى الحبشة قبل ترسّخ الإسلام.
في قصيدتها «وطن»، تقول الشاعرة الصومالية ورسان شاير:
«عليك ان تفهم،
أن ما من أحد يضع أطفاله في قارب
ما لم تكن المياه أكثر أماناً من اليابسة».
لم يبقَ شيء على هذا البرّ، ومهما عدّدنا، لا نستطيع استيعاب حجم الظلم الذي يلحق بأبناء هذا الوطن، جرّاء أفعال وتصرفات الطبقة الحاكمة، التي حوّلت هذا البرّ الذي كان (على علّاته سابقاً) حديقة غنّاء، فإذا به يصبح «صعيداً زلقا»، على ما ورد في النص القرآني الكريم.
منذ أعـوام، وَرَدَ في إحدى مقالات «التمدن» أن «صناعة الأمل خير من صناعة الأمن»، لكن الرهان كان على الأمن دون أي اهتمام بالأمل، مما جعل الأحوال تتدهور من سيئ إلى أسوأ، وأصبحت أوضاع الناس صعبة إلى درجة تدفعهم إلى المجازفة بحياتهم وركوب البحر، سعياً إلى عيشة أفضل، على الرغم من علمهم أن رحلةً كهذه قد تودي بحياتهم.
لا أحد يحبّ النصائح، ولن نغرق بها، خاصة مع هذه المأساة المفجعة، التي قد تكون حصيلتها، لا سمح الله، أكثر من ٣٠ شهيداً (أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن «القارب كان يقل أكثر من 84 شخصاً»، أما العدد المعلن للناجين فهو 48 شخصاً)، وفيما هناك ضرورة قصوى لفتح تحقيق جدّي وسريع وشفاف، يوضّح للرأي العام أسباب وقوع هذه المصيبة، وظروفها والمسؤول عن حدوثها، يجب، في الوقت عينه، أن ننظر إلى واقعنا وواقع البلد، بحكمة ودراية، لمنع المصطادين في الماء العكر من تحقيق أهدافهم في خلق صدام بين البيئة الطرابلسية والجيش، إذ علينا الانتباه أنه لم يبقَ إلا مؤسسة الجيش كعنصر ضامن قدر المستطاع في هذا البلد، خاصة بعد انهيار المؤسسات، الواحدة تلو الأخرى، وآخرها مؤسسة القضاء، فحذار أن نطلق النار على أقدامنا.
نعم، مع التحقيق الشامل والدقيق والسريع والعادل والحاسم، ولكن لنتجنّب الفوضى وإثارة الغرائز، فالوضع لا يحتمل أصلاً.
إنها رسالة الشهداء، من تحت المياه التي اختلطت بدمائهم الطاهرة والبريئة والمظلومة، تُوجَّه إلى الضمير الإنساني في كل مكان، بأن لا أمل في هذا البلد إن لم تتمّ المسارعة لإنقاذ أهله، الذين يتعرضون لأقسى أزمة اقتصادية مرّ بها أي شعب منذ مئتَي عام، ويتعرّضون لأزمة إنسانية، وأزمات أخرى لا حصر لها، بل هم قد وقعوا في الأسر، أَسر منظومة فاسدة لا تشبع، ولن تشبع، حتى لو ابتلع البحر الأبيض المتوسط كلّ اللبنانيين، ولم يبقَ من يُخبّر.
رحم الله الشهداء، وصبّر أهاليهم، وأهل طرابلس وعكار والضنية، وكلّ أهل هذا البلد المسكين.