بين التأقلم والتهريج
إني لأحسد كلَّ إنسان قادر على التأقلم مع المتغيرات التي تحصل حوله وبشكل سريع وعملي. فكيف بالنسبة إلى شعب بأكمله، يمتصّ الصدمة تلو الأخرى، ويقوم بإجراء تغييرات كاملة في كيانه، والأهم في روحه، ثم يمضي مكملاً طريقه في الحياة وكأن شيئاً لم يكن. إنّ فرداً او شعباً كهذا يستحق منا كلّ التقدير والأعجاب، ويستحق التصفيق وصرخات «البرافو» .
فهل بإمكاني القول إن الشعب اللبناني بشكل عام، والطائفة السنّية بشكل خاص، قد استوعبا الصدمة الناجمة عن «شطب» سعد الحريري وتياره من الحياة السياسية والاقتصادية ومن الانتخابات، ومضى كلٌّ في طريقه وكأن شيئاً لم يكن.
وهل تستعد الطائفة السنّية لأستبدال الحريري بقادة«من طراز رفيع» ، سواء من بطانته المقربة، او من اللفيف الذي كان يمجد بحمده ليل نهار، ويقتات من موائده الظاهرة والمضمرة، المعنوية والمادية.
من جهتي، أنا لم اتأقلم بعد، وأحسب أن الأمر عائد الى وجودي السابق خارج لبنان، ولفترات طويلة، فلقد نسيت ربما «الثقافة اللبنانية الأصيلة» ونسيت الأقحوان وصبغة الأرجوان، ونسيت عشتروت وأدونيس، ونسيت الخنزير البري، ونسيت أليسار وقرطاجة، ونسيت هنيبعل، ونسيت صور وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس.
لقد نسيت ربما السودا النية، ونسيت التبولة والكبة، ونسيت الإبريق «ابو الزرزقة» . نسيت كل هذا ربما، ونسيت تقاليد التأقلم مع المهانة والعبث بالكرامة، ونسيت واقع الحال.
ولكن مهلاً، فلا بدّ أن للأمر سبباً آخر غير اختلاف الثقافة و«نعمة النسيان» . فهناك لبنانيون مثلي، أمضوا أعمارهم خارج وطنهم، متجولين في مختلف أصقاع الدنيا، لكن ها هم قد عادوا إليه للترشّح الى الانتخابات بمجرّد علمهم بإجرائها.
لذلك، لا بدّ من وجود سبب آخر، له علاقة بالجينات المختبئة داخل النخاع الشوكي لهذا اللبناني العظيم. فهل يصحّ، في هذا المجال، الاستشهاد بالمثل الشعبي المعروف عن «ذنب الكلب الذي بقي معوَجاً رغم وضعه أربعين عاماً في قالب حديدي مستقيم»؟ هل يصحّ استخدام هذا المثل هنا، للدلالة على الفرادة والتميّز ولا عجب؟
لم يهبط رفيق الحريري على لبنان بالباراشوت، او بكبسولة فضائية كسوبرمان. بل أتى يحمل مشروعاً عربياً هَدفَ إلى إعادة إعمار البلد وإصلاحه. فأتى مشروعٌ آخر وقضى عليه بألفَي كيلوغرام من المتفجرات. ورث سعد الحريري المشروع وورث معه المليارات وملعقة ذهبية في الفم، وبغض النظر عن نجاحه او فشله في لبنان، فلقد تمّ شطبه من المعادلة وكأنه جملة على سطر، قرّر كاتبها أن يشطبها بعدما سحب الملعقة الذهبية من بين الاسنان واللسان.
أما نحن فنتأقلم، وكأنّ شيئاً لم يكن، ونعتاد على المتغيرات، ونستمرّ في حياة هي أقرب الى الموت، لما فيها من ذلّ وخنوع، ومن وهن وعجز وخيانة. وننسى، في الوقت عينه، الحكمة الازلية، التي تقول إن المياه العميقة ثابتة وراسخة ومستقرة، فيما المياه التي على السطح تتحكّم بها كلّ ريح عابرة.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.