طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

الإنتخابات النيابية في طرابلس خلال مئة عام (1)… صراع عائلي تحت سقف إستانبول

يميناً: المفتي عبد الحميد كرامي، الشيخ محمد الجسر

مع كل إنتخابات نيابية يعود الحديث إلى تاريخ هذه الإنتخابات على الصعيد اللبناني، ويتركز على الدائرة الإنتخابية، فيتم إسترجاع الماضي بأفراحه وأحزانه، في حين يلجأ البعض إلى نكء الجراح ونبش القبور، ويبدأ التفتيش عن التحالفات السابقة، كيف كانت وكيف جرت، ومن كان الرابح وماذا نال من الأصوات إلخ…
وقُيّض لي في العام 2009 أن أنجز كتابي «الإنتخابات النيابية في طرابلس والشمال خلال مئة عام (1908-2009)» الذي حظي بإهتمام الأوساط الأكاديمية والسياسية، وسدّ ثغرة في موضوع تأمين المادة التاريخية لحركة المعارك الإنتخابية، في مختلف مدن ومناطق الشمال على إمتداد تلك السنوات… وأقتطف في هذه العجالة وفي حمأة الصراع الإنتخابي الآني بعض الفقرات المعبرة عن «المعارك الإنتخابية» في مدينة طرابلس تحديداً على أن أتابع نشر هذه الوقائع في الأقضية الشمالية تباعاً وصولاً إلى عشية عملية الإقتراع.
شهدت السنوات التي أعقبت عام 1908 تطوراً سياسياً بارزاً في مدينة طرابلس هو جزء من تطور عام شهدته المنطقة بعد الإنقلاب الدستوري في إستانبول عاصمة السلطنة العثمانية، والذي أطلق مبادرات أسهمت في تحرك القوى المحلية المدينية، لتأخذ نصيبها من التمثيل السياسي.
وشهدت الأحداث في مرحلة 1908 -1920 بدء الإنتداب الفرنسي على لبنان، لتعطي إنطباعاً إجمالياً حول نوع القوى المحلية في طرابلس، ونلاحظ بأن ثمة عدداً من الشخصيات كانت على إستعداد لتتعاطى مع هذه المستجدات، وهي شخصيات توارثت المناصب والوظائف وتنتمي إلى عائلات معروفة، إنطلاقاً من تأثير التركيب العائلي على الحياة الإجتماعية والسياسية.
ومكّن التوسع الديموغرافي من رفع عدد سكان طرابلس من عشرين ألف نسمة آنذاك إلى أكثر من ستماية ألف نسمة كما هو في الوقت الراهن، ولم تلغِ التطورات تأثير الإنتماء العائلي، فنجد اليوم أنّ أبناء وأحفاد الذين كانوا يشكلون صدارة الوجهاء في مطلع القرن الماضي ما زالوا يتصدرون المناصب والوظائف الإجتماعية أو الإدارية أو السياسية، وقد حصل بنتيجة ذلك إنقسام أولي بين تيار محافظ، يمثله «حزب الإئتلاف العثماني»، وبين تيار مؤيد لـ «حزب الإتحاد والترقي» لفترة قصيرة.
وقد تبلور هذا الإختلاف مع أول إنتخابات جرت بعد الإنقلاب الدستوري 1908، فكان الزعيم عبدالحميد كرامي وفؤاد عمر المنلا وعبدالغني الأدهمي من مؤيدي «الإتحاد والترقي»، وفاز في تلك الإنتخابات عن طرابلس فؤاد خلوصي وهو تركي، أما في إنتخابات 1912 فقد فاز محمد الجسر وسعد الله المنلا وعثمان المحمد.
وشهدت تلك المرحلة تأسيس جمعية خيرية إسلامية أطلقها محمد رشيد رضا، خلال إجتماع ترأسه آنذاك المفتي رشيد كرامي، وضمّ مجموعة من المتمولين والتجار والمحامين، وعند إنعقاد المؤتمر العربي في باريس في 1912 أرسل وجهاء طرابلس رسالة إلى المؤتمرين، بتوقيع من مجموعة تجار وملاكين وأطباء وصيادلة وعلماء، مما يدلّ على إتساع حجم المشتغلين في الحقل العام، حيث برز على الساحة الطرابلسية شخصان كان لهما في ما بعد الدور البارز وهما الشيخ محمد الجسر، والشاب عبدالحميد كرامي الذي عُيّن مفتياً بعد وفاة والده المفتي رشيد كرامي عام 1912.
وفي المجالس التمثيلية التي أعقبت ولادة لبنان من 1920 إلى 1937 لم تتغير كثيراً أسماء الفائزين، أو الذين يحق للحاكم الفرنسي تعيينهم، وعُرف من هؤلاء نورالدين علم الدين، يعقوب النحاس، خيرالدين عدرة، محمد الجسر، جبران نحاس، رشاد أديب، أمين المقدّم.
وفي العام 1937 بدأ مشهد سياسي جديد في طرابلس تمثّل بالترخيص لبعض الأحزاب، و منها «الحزب الشيوعي»، وإستقطاب العمال والمناصرين، ومع ذلك إستمر التوجه العروبي وكان هو الأقوى ويومها تشكلت لائحة إئتلافية على صعيد الشمال، وكانت حصة طرابلس مقعدين فاز بهما راشد المقدم وشفيق كرامي، وفي العام 1942 تأسس فرع لـ «حزب النجادة» وتبعه تأسيس حزب النداء القومي برئاسة قبولي ذوق، فعمد آل كرامي إلى تأسيس «حزب الشباب الوطني» وأُسندت رئاسته لمصطفى كرامي شقيق عبدالحميد، وفي أعقاب إعلان الإستقلال جرت لأول مرة معركة إنتخابية حادة بين تيارين اُطلق على الأول إسم «اللائحة الدستورية» الموالية للرئيس بشارة الخوري، وكانت الثانية موالية لمنافسه الرئيس إميل إدة، وفي الإنتخابات التي جرت وقتها ترشح لأول مرة عبدالحميد كرامي وفاز.
أمّا في العام 1951، وبعد وفاة عبدالحميد كرامي، نشأ صراع داخل عائلة كرامي على وراثته سياسياً، بين شقيقه مصطفى وإبنه رشيد، وقد حُسم الأمر لصالح رشيد كرامي.
ومنذ تلك اللحظة بدأت المعارك الإنتخابية في مدينة طرابلس والشمال تشهد صراعات إنتخابية من نوع جديد، سواء كان القانون الإنتخابي يجري على أساس الدائرة المصغّرة أو الموسعة، التي سُميت في حينه بإنتخابات «البوسطات»، وليشكّل الثنائي الرئيس رشيد كرامي والدكتور عبدالمجيد الرافعي عصب الحياة السياسية في المدينة، ولاسيما خلال المعارك الإنتخابية التي شهدتها المدينة إلى حين إستشهاد الرئيس كرامي في 1987 ووفاة النائب الرافعي في 2017، ولتبدأ مراحل جديدة وأحداث كثيرة عانى خلالها اللبنانيون وما يزالون من إبتداع قوانين جديدة للإنتخابات النيابية تم إقرار معظمها وتفصيلها على قياس بعض النافذين ولتأمين وصولهم إلى الندوة البرلمانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.