طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

ثنائية رشيد كرامي – عبدالمجيد الرافعي: منافسة وتشاور وشهامة طرابلسية

كتب صفوح منجّد
في إنتخابات عام 1951، كما جاء في كتابي «الإنتخابات النيابية في طرابلس والشمال خلال مئة عام 1908- 2009»، وبعد وفاة المفتي والرئيس عبدالحميد كرامي، نشأ صراع بين آل كرامي على وراثة عبدالحميد سياسياً، بين شقيقه مصطفى رئيس «حزب الشباب الوطني» وإبنه رشيد، وقد حُسم الأمر لصالح رشيد كرامي الذي تحالف مع نواب سابقين مثل نصوح الفاضل في الضنية، وكان قضاء طرابلس في هذه الدورة يشكّل مع طرابلس دائرة إنتخابية واحدة، كما تحالف مع بعض الأسماء الجديدة مثل الطبيب هاشم الحسيني الذي مثّل آنذاك الشباب الطرابلسي المتعلم والعصامي وفؤاد البرط (متموّل) عن المقعد الأرثوذكسي لتفادي التحالف مع جبران النحاس حليف خصومه في الدورات السابقة، كما تحالف مع قبولي ذوق رئيس «حزب النداء القومي» في طرابلس ومع سعدي المنلا.
وفي دورة العام 1953 – 1957 قُسّمت طرابلس إلى دائرتين إنتخابيتين: التبانة والحدادين ولكل منهما نائب واحد وجاءت هذه الدورة الإنتخابية في أعقاب إستقالة بشارة الخوري وتخفيض كميل شمعون لعدد أعضاء المجلس النيابي.
وفاز في هذه الإنتخابات الدكتور هاشم الحسيني حليف كرامي عن الحدادين كما فاز عن التبانة رشيد كرامي.

إنتخابات العام 1957
جاءت إنتخابات 1957 بعد أن أصبح رشيد كرامي وزيراً ورئيساً للحكومة، أي بعد أن استطاع أن يثبّت مواقعه السياسية طرابلسياً ولبنانياً، لهذا فإنّ المعركة الإنتخابية العائدة لعام 1957 لم تعرف الإنقسامات السابقة، فكان عدد المرشحين 12 مرشحاً يتنافسون على أربعة مقاعد، وهم: رشيد كرامي، هاشم الحسيني، فؤاد البرط، نديم الجسر، محمد حمزة، قبولي ذوق، حبيب عبدالوهاب، جبران نحاس، عبدالمجيد الرافعي، ممدوح النملي، أمين نوفل. ويلاحظ في هذه الإنتخابات ترشُح الدكتور عبدالمجيد الرافعي الذي كان قد عاد من سويسرا إلى طرابلس إثر نيله شهادة دكتوراه في الطب لتبدأ ثنائية: كرامي – الرافعي.
وقد فازت لائحة كرامي التي ضمت الحسيني والبرط الحليفين السابقين كما ضمت الجسر. ونجد أن كرامي لا يتوقف عند الخصومات السابقة إلى جانب عدم تقيده بالتحالفات الثابتة عندما يجد أنّ ذلك قد يضر بفوز لائحته كاملة، ويمكننا أن نتلمّس من خلال ذلك أمرين يحددان سياسة رشيد كرامي الطرابلسية:
– أولاً: تكريس نفسه كرئيس لائحة وكوريث لزعامة عبدالحميد الشعبية، وقد إستفاد بشكل خاص من تسلّمه لرئاسة الحكومة.
– ثانياً: خصومته الثابتة لطموح العائلات التي قبلت على مضض بزعامة كرامي مقابل تسيير مصالحها.

إكتمال الثنائية
في العام 1960 جرت الإنتخابات النيابية الأولى في عهد الرئيس فؤاد شهاب وتمّ رفع عدد النواب إلى 99 نائباً وكانت حصة طرابلس 5 مقاعد، 4 للسنّة و1 للأرثوذكس، وإعتُمد القضاء كدائرة إنتخابية، كما جرت هذه الإنتخابات في أعقاب أحداث العام 1958 التي نشأت في أعقاب محاولات التمديد لعهد الرئيس كميل شمعون حيث تزعّم الرئيس كرامي الإنتفاضة في وجه شمعون إلى جانب الزعماء الوطنيين في العاصمة وفي المناطق.
كما سطع آنذاك نجم الدكتور عبدالمجيد الرافعي نظراً لدوره في ثورة العام 1958 كقائد شعبي، وتوسعت نشاطاته الإنسانية آنذاك وخاصة الصحية منها في مجال الخدمات التي تقدمها «المستوصفات الشعبية» التي أسسها الرافعي في مختلف أحياء المدينة، ومن دوره في قيادة «حزب البعث» وإختياره لاحقاً كأمين سر للقيادة القطرية لحزب البعث في لبنان وكعضو في القيادة القومية لحزب البعث الحاكم آنذاك في العراق.
ويقول النائب السابق سالم كبارة في كتابه «طرابلس في ذاكرة الوطن» عن تلك الإنتخابات: «… وسرت إشاعات يومها أنّ فوز الدكتور أمين الحافظ على الدكتور عبدالمجيد الرافعي (وهو قريبه) كان مصطنعاً إذ أنّ الفارق كان ضئيلاً، ولكنني لم أتمكن من التأكّد من صحة هذه الواقعة».
يضيف كبارة: «وفي بدء الإنتخابات كان قد إتصل بي كل من الدكتور الرافعي وفواز المقدّم ملحّين عليّ تأليف لائحة ضد رشيد كرامي التي كانت علاقتي معه تمرّ بفتور. وكانت مواقف الدكتور الرافعي الوحدوية وعلاقتي مع مصطفى كرامي وفواز المقدم تشدني إلى التعاون معهما فأيدتهما في الإنتخابات ولكنني لم أرغب أبداً تأليف أية لائحة لأنني كنت مازلت مصمماً على عدم خوض المعارك الإنتخابية النيابية ولم تكن تهمني جداً كما أنّ وضعي المالي والصحي لم يسمحا لي بذلك.
والواقع كما يشير معاصرون لتلك الفترة أنّ الرافعي حظي بتأييد عائلي وشعبي واسعين آنذاك، وعبّرت عن ذلك لقاءات التأييد له في أحياء المدينة.
ومن مشاهداتي الشخصية وكما وردت في كتابي «الإنتخابات النيابية» أنه في يوم الأحد الذي سبق إجراء الإنتخابات آنذاك مثلاً اُقيم مهرجان نسائي للرافعي في قاعة سينما «روكسي» وعندما إمتلأت القاعة في ساعة مبكرة قبل الظهر، تمّ إفتتاح قاعة سينما «كابيتول»، ومن ثم جرى إستقبال وفود النسوة أيضاً في سينما «ريفولي». وكادت اللجنة النسائية المنظمة أن تؤمن أيضاً قاعة سينما «أوبرا» للغاية نفسها. وكان يتوجب على الرافعي التنقل بين قاعات هذه الدور للقاء الجمهور النسائي وإلقاء كلمة بمناسبة ترشيحه إلى الإنتخابات.
ولكن التدخلات كما يقول أنصار الرافعي والتي مارستها بعض الأجهزة الرسمية آنذك عملت على إسقاط الرافعي حيث كان من المتوقع فوزه، وفازت لائحة كرامي بكاملها وضمت إليه الحسيني والبرط وحمزة والحافظ.

فوز متكرر لكرامي وتعديلات والرافعي يخرق لأول مرة
وحصد كرامي ولائحته فوزاً متكرراً في دورتي 1964 و1968 حيث جرت المعركة الإنتخابية فيهما في أيسر الظروف بالنسبة لرشيد كرامي الذي إحتفظ بحلفائه الرئيسيين وسط عزوف من قبل أبناء بقية العائلات عن خوض الإنتخابات مثل عائلات الجسر ومنلا وعدرة وسلطان وغيرهم الذين بقوا بعيدين عن المسرح الإنتخابي نتيجة لتحالف ضمني مع كرامي في حين تشكلت لائحة منافسة ضمت عوني الأحدب إبن مصباح الأحدب المرشح السابق وفواز المقدم وقبولي ذوق وسعد الله شعبان، كما ترشح الدكتور عبدالله البيسار وفضل أدين وجلال مولوي وموريس فاضل وفاروق المقدّم الذي قدم من باريس حيث كان يتابع دراسته للإنخراط في المعركة الإنتخابية وليشكل في ما بعد «حركة 24 تشرين».
أما إنتخابات 1968 تميزت بطابع حزبي إلى حد بعيد شارك فيها ممثلون عن أحزاب «البعث» و«الشيوعي» و«حركة القوميين العرب» وكانت بإمتياز معركة الحزبيين ضد لائحة كرامي التقليدية، وقد تشكلت لائحة غير مكتملة قوامها عبدالمجيد الرافعي ومصطفى الصيداوي وعمر عبداللطيف البيسار.
كما تقدّم للإنتخابات سعدالله شعبان وفاروق المقدم وعبدالله البيسار وموريس الفاضل ولم يُقبل ترشيح نقولا الشاوي لإنتمائه إلى «الحزب الشيوعي» غير المرخّص آنذاك وإستطاع رشيد كرامي مرة أخرى أن يحتفظ بتمثيل طرابلس من خلال فوز لائحته كاملة والتي لم يطرأ تبديل على أسماء أعضائها وهم: رشيد كرامي، أمين الحافظ، هاشم الحسيني، سالم كبارة، وفؤاد البرط.
وجرت إنتخابات العام 1972 وسط إنطباع سائد أنّ فرص خرق لائحة كرامي أصبحت ممكنة وتميزت هذه الدورة بكثافة عدد المرشحين وكثافة الحضور الحزبي وكانت أشبه بدورة عام 1951 من هاتين الناحيتين، لكنها تميزت أيضاً بخرق لائحة كرامي لأول مرة بدخول عبدالمجيد الرافعي إلى الندوة البرلمانية.
وإذا كان ثمة شبه بين دورتي 51 و72 وخصوصاً لجهة التضعضع العائلي (ثلاثة مرشحين من آل المقدم) إلآ أنّ كرامي أجرى تعديلين في لائحته بإستبداله فؤاد البرط بالمتموّل الأرثوذكسي الآخر موريس الفاضل، وسالم كبارة بعبدالغني عبدالوهاب وهو متموّل من ميناء طرابلس.
وبالمقابل تشكلت لائحتان ذات طابع حزبي الأولى ضمت عبدالمجيد الرافعي، مصطفى صيداوي، خالد علوش، أحمد الأحدب، جبرائيل خلاط، أما اللائحة الثانية غير المكتملة فضمت: نقولا الشاوي (وقد تم الترخيص لحزبه الشيوعي)، فاروق المقدم، المحامي رشيد درباس، كما خاض المعركة الإنتخابية كل من ممتاز المقدم، فواز المقدم، أسعد البرط، قبولي ذوق، سعدالله شعبان، محمد علي ضناوي، محمد حمزة، خلدون نجا، عمر البيسار.

خاضا سوية ثورة 1958
من الملاحظ أنّ الرئيس كرامي والنائب الرافعي قد خاضا سوية، وكل منهما من منطلقه الخاص، ثورة العام 1958 ضد عهد الرئيس كميل شمعون الذي حاول تمديد عهده الذي لقي آنذاك معارضة شديدة من قبل الزعماء والقيادات الوطنية الإسلامية والمسيحية في حين إقتصر تأييد هذا التوجه اللادستوري على بعض الأحزاب المسيحية.
ففي طرابلس كان بارزاً في حينه ذلك التعاون الذي نشأ بين كرامي والرافعي بنتيجة اللقاءات التي كانت تُعقد بينهما بدعوة من قيادات وقوى وشخصيات وطنية على مقربة منهما، وكانوا يقومون بالمساعي بينهما وينقلان لكل منهما ما يقترحه الآخر من خطوات وتحركات في الشارع الوطني المحلي.
كما أنّ هذه المساعي كانت تنجح في جمع هاتين الشخصيتين الوطنيتين البارزتين كلما إستدعت الحاجة لأن يتناقشا وجهاً لوجه ويعرضا معاً الأوضاع الوطنية على كافة الصعد.
ومن تلك الشخصيات المقرّبة من كرامي والرافعي لا بد من ذكر إسم كل من الإقتصادي والصحافي فايز سنكري، رئيس بلدية طرابلس عشير الداية، وغيرهما كثر من أبناء طرابلس الغيورين على المصلحة الوطنية وكانت المباحثات المباشرة تنجح دوما في تجاوز بعض التناقضات ووجهات النظر المختلفة تجاه الأوضاع المحلية والوطنية.
ويشار في هذا الإطار أنّ كلاً من كرامي والرافعي قد رفضا في حينه تقديم أيّ دعم أو تأييد لتلك الزمرة التي عُرفت باسم «دولة المطلوبين» على سبيل المثال لا الحصر.

في المعارك الإنتخابية الأمر مضحك
لجأ أنصار الرافعي في تلك الإنتخابات التي جرت العام 1972 وقوى أخرى إلى نشر وتعليق يافطات وملصقات جاء فيها: «رابع مليونير في العالم» للنيل من كرامي، وشعار آخر «لن ننتخب خشبة» للإشارة إلى أنّ أعضاء لائحة كرامي هم دائماً أنفسهم لا يتم إستبدالهم ولا يُسمع لهم كلمة لا في المجلس النيابي ولا خارجه.
كما جاء في أحد الملصقات: «مبارح كانت أمو يهودية واليوم صارت حجة عربية» في أعقاب إستبدال أحد مرشحي الأرثوذكس على لائحته.
ويُذكر أنّ الرئيس الشهيد رشيد كرامي قد عقد في تلك الفترة لقاء شعبياً في مقهى «التل العليا» للرد على هذه الإفتراءات مفنداً إياها فأشار: «أنا لا أملك دكاناً أو مصلحة أو أي شيء من هذا القبيل من شأنه زيادة مواردي المالية وكل ما أملكه هو تركة من والدي رحمه الله. أمّا بشأن وصف البعض بأن زملائي النواب هم خُشب مسنّدة فهذا غير صحيح فنحن كاليد الواحدة كلنا واحد في سبيل وطننا وبلدنا طرابلس وبإجتماعنا معاً لا تستطيع قوة في العالم النيل من وحدتنا ومن تعاضدنا.
وينقل أحد مرافقي الرئيس رشيد كرامي من آل الأيوبي أنه كان يوماً في منزل الرئيس الشهيد في منطقة المعرض بطرابلس إذ بجرس الهاتف يرن، وكانت يومها أحداث 1969 قد بدأت بين الجيش والمقاومة الفلسطينية وقدّم الرئيس كرامي إستقالة حكومته في حين قام فاروق المقدم بإحتلال قلعة طرابلس.
وبعد أن ردّ الأيوبي على الهاتف سارع إلى كرامي قائلاً: «دولة الرئيس بيار الجميل على الخط».
فما كان من كرامي إلآ أن توجه إلى مرافقه قائلاً: «يا إبني هيدا إسمو معالي الوزير الشيخ بيار الجميل».
وهكذا كان وإستفسر الجميل من كرامي عن الأوضاع وإطمأن منه على مجريات الأحداث ولاسيما ما يجري في طرابلس. وسُمع كرامي يقول لجميل: «ليس هناك من داعي للقلق والأمور نتابعها وستنتهي قضية تواجد المسلحين في القلعة في أقرب وقت إن شاء الله».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.