المعركة خاضها الناخبون لا المرشحون وساحتها كانت «التواصل الاجتماعي»
لعل المعركة الانتخابية النيابية الفرعية، التي جرت في 14 نيسان 2019، لملء المقعد النيابي السني الخامس في عاصمة الشمال، هي المعركة الانتخابية النيابية الحقيقية الأولى الكبرى في لبنان، والتي تخاض بالكامل على صفحات «التواصل الاجتماعي».
فعلى الرغم من أن الانتخابات النيابية، التي جرت في أيار 2018، قد شهدت استخدامات كبيرة للمواقع الالكترونية ولصفحات التواصل الاجتماعي (فايسبوك، واتساب وغيرها)، إلاّ ان تلك الاستخدامات لم تصل أبداً إلى المستوى الذي وصلت إليه في الانتخابات الفرعية الأخيرة ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
1 – كون انتخابات أيار 2018، كانت الأولى التي تُخاض في مرحلة «التواصل الاجتماعي»، المستحدث والجديد على عامة الناس وبالطبع الناخبين منهم، فالاستخدامات كانت أضعف من الآن.
2 – قد تكون كثرة اللوائح والمرشحين في ايار 2019، وقوة تلك اللوائح والشخصيات الأساسية الهامة التي ترأستها، والتحضير الجدي الذي قامت به هذه اللوائح مسبقاً، والوقت الطويل الكافي الذي أخذته تمهيداً للمنازلة في يوم الانتخاب، قد تكون كل هذه الأمور قد جعلت الناخبين عامة محافظين ومتحفظين ومتهيبين من تناول المرشحين على اللوائح وقتها بعكس ما يجري اليوم.
3 – ما جعل المعركة حادة وحامية على صفحات «التواصل الاجتماعي» في الفرعية قد يعود ايضاً إلى محدودية قدرات المرشحين في هذه الدورة الاستثنائية، وكثرة الأخطاء التي ارتكبوها، وقرف الناس من الملابسات التي رافقت الترشيحات، وعدم وجود برامج متقابلة شبه متناقضة أو تنتمي إلى جبهات سياسية أساسية متنافسة أو لها تاريخ طويل من المواجهات المتبادلة.
4 – إضافة إلى ذلك، هناك عامل أساسي هو الارتفاع القياسي الذي يشهده استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عند الناس، وهو ارتفاع يزداد يوماً بعد يوم، ولا شك انه أكبر بكثير مما كان عليه في 2018، مما يعني ان الاستخدام والمشاهدة بارتفاع مضطرد، وكذلك المشاركة في إبداء الرأي وفي تنزيل الصور والتعليقات و«النهفات» والتعليق على الأخطاء الكثيرة والفادحة التي ارتكبها بعض المرشحين، مما اثار السخرية من جهة والنقمة من جهة أخرى.
5 – كذلك، هناك التسريبات المصورة والسمعية التي سُجلت لبعض المرشحين، فكانت أشبه بفضائح مكرّسة، علاوة على الاستخدامات العجيبة التي جرت من قبلهم لصفحات «التواصل الاجتماعي» الخاصة بهم، فكانت كل هذه الامور مواد حارة لالتقاط تلك الأخطاء التي وصل بعضها إلى حدود اللامعقول.
6 – التمرّس المتزايد الذي اكتسبته المجموعات الكبيرة التي يشترك في عضويتها مئات أو آلاف الناس، فكانت الأمور تتطور ساعة بساعة، وجرى نشر كل أنواع الأخبار بسرعة، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مصورة أو مأخوذة من برامج تلفزيونية أو اذاعية أو منقولة من مقابلات صحافية في الجرائد.
7 – لا يمكن ايضاً نسيان ان المئات وربما الآلاف من الناخبين في دائرة طرابلس والمنتشرين في كل انحاء العالم، قد وجدوا في «التواصل الاجتماعي» ضالتهم للتعبير عن آرائهم بحدة وقسوة وغضب، يعززها ربما اغترابهم وشوقهم لمدينتهم وحزنهم على الوضع الذي آلت إليه، فيما هم يرون حولهم كيف تُبنى الدول الحديثة والمتقدمة والعادلة والديمقراطية عن حق.
8 – ومن الأسباب، التي جعلت مشاركة الناخبين على «التواصل» تتصاعد وتتزايد بشكل غير مسبوق وهائل في المعركة الانتخابية الأخيرة تحديداً، شعورهم بعدم الانتماء الحقيقي والفعلي والعضوي لأي من المرشحين المتنافسين، وبعدم الرغبة في التواصل المباشر معهم أو مع الأفرقاء المحيطين بهم أو مع الأطر التي يعملون من خلالها، فاختاروا إبداء آرائهم «افتراضياً»، سلباً أم إيجاباً، تعاطفاً أم احتقاراً، محبة أم كرهاً، اعجاباً أم قرفاً، وكل هذه الآراء عبروا عنها ولو عن بُعد، كونهم دائماً يُظهرون حباً لمدينتهم ويريدون لها ان تخرج من كبوتها ولهم آراؤهم في كيفية الخلاص.
9 – يضاف إلى كل ما سبق نقطة هامة ساهمت في اشتعال المعارك على «التواصل الاجتماعي»، وهي ان معظم الناس، في الأساس، ومنذ ما قبل الانتخابات، كانوا شديدي التعلق بهواتفهم الذكية، فجاءت الانتخابات وأفسحت لهم المجال في تعزيز هذا التعلق والمتابعة الدقيقة لكل التفاصيل التي تشهدها التحضيرات الانتخابية، واعلان آرائهم في ما يجري، فالمسألة اساساً تتمحور حول الارتباط الكبير بين يد الناخب وهاتفه.
إذاً، هناك ثورة حقيقية حدثت، وهناك تفجر فعلي، على الصعيد الطرابلسي، قد حصل في الاسابيع التي سبقت الانتخابات، بحكم التفاعل غير المسبوق الذي قام به الناخبون من خلال «التواصل الاجتماعي»، وقد تكون الأسباب السابقة، التي اوردناها أعلاه، هي، كلها او أجزاء منها، ما يكمن خلف هذا التفجر، وفي المقابل، ربما لو كانت الظروف الانتخابية والترشيحية وبعض الشخصيات المرشحة مختلفة، كنا لنجد إنفسنا (ربما) أمام مشهد مختلف بشكل أو بآخر. لكن، اياً تكن الظروف الانتخابية، لم نكن لنجد انفسنا أمام مشهد يشبه انتخابات 2018 أو 2009 أو ما قبلهما.
فهناك وقائع على الأرض، وبالأصح على شاشة الهاتف، لا يمكن ان ننكرها، وعلينا ان نعرف ان الأمور لن تعود إلى الوراء، وان المستقبل قد يخبئ لنا مفاجآت جديدة تفوق في تطورها وحداثتها وثوريتها الوقائع التي نعيشها اليوم، فلا رجعة إلى الوراء بل ربما ذهاب إلى أقاصي الأقصى.
أما الملاحظة الأخيرة التي يجب ان نذكرها فهي التالية:
صحيح ان عدد الذين يقرأون أو يكتبون قد زاد بشكل سريع وكبير بسبب «التواصل الاجتماعي» والهواتف الذكية، لكن المشكلة تكمن في ان الذين كانوا لا يقرأون سابقاً صاروا الآن يقرأون ولكن بطرق سطحية غير عميقة ويكتبون على نفس المنوال، وكتاباتهم تتسم بالأخطاء المريعة لغوياً وإملائياً.
في المقابل، نلاحظ ان الذين كانوا، قبل ثورة «التواصل»، يقرأون بعمق ونهم ويغوصون في مضامين ما هو مكتوب ويترصدون الأخطاء والشائعات والأكاذيب، هؤلاء للأسف صار الكثير منهم يقرأون ويكتبون تماماً كما يكتب ويقرأ اليوم الذين ذكرناهم سابقاً، ونعني الذين لم يتعودوا في السابق على القراءة والكتابة.
هذا الأمر جعل المعلومات تنتشر كثيراً، ولكن في المقابل لم يعزز من قيمة التعمق، بل ربما أخذ الجميع إلى شكل من أشكال التسطيح.
فسابقاً كانت القراءات والمعلومات منتقاة وعميقة وذات مرجعية ومصداقية، ولو لم تكن متوفرة دائماً، وحالياً صارت المعلومات متوفرة طوال الاوقات وعلى مدار الساعة، لكنها صارت ايضاً أقل مصداقية واكثر سطحية.
وعلى صعيد اللغة واصول كتابتها، المعضلة تحتاج فعلاً إلى معالجة، وهي معضلة لا يواجهها معظم الغرب الذي اخترع الهواتف الذكية و«وسائل التواصل الاجتماعي»، فهناك معظم اللغات الرسمية للأمم مطابقة الى حد كبير مع لغاتها المحكية، فتأتي الكتابة مراعية برصانة للغة تُكتب كما تُحكى وتُقرأ على نفس المنوال، فيما عندنا يكاد كل حيّ يكتب بالطريقة التي يتكلم بها، وهو يتكلم اساساً بطريقة مختلفة عن اللغة التي ينتمي إليها، وهذا يزيد من التشويه والابتعاد عن اللغة الأم ويصيبها بضرر فظيع.