طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

أبنية ذات قيمة تاريخية وأثرية: تطوّر شارع «عزمي بك» من الإنتداب الفرنسي إلى اليوم

صورة لـ «شارع عزمي» تعود إلى العام 1960

إعداد المهندسة المعمارية زينة عبدالهادي خطيب*

توجد مرحلة مهمة في مدينة طرابلس هي مرحلة الإنتداب الفرنسي (1920-1943). هذه المرحلة لعبت دوراً كبيراً في التأثير على المجتمع والمدارس والمباني فيها، بالرغم من أن احتلالها كان لفترة زمنية قصيرة بالنسبة لغيرها إلا انها تمثل المرحلة الإنتقالية بين العهد العثماني والعهد الجمهوري. إذ توسعت المدينة خلال هذه الفترة إلى خارج المدينة القديمة وبدأت تنفتح على كل جديد وتندمج بنمط الحياة المدنية، فبدأ التوجه إلى النمط الحديث للعمران بإتجاه البحر، فشُقت الشوارع العريضة وظهرت المباني بطريقة مختلفة عن سابقاتها وتتماشى مع متطلبات الحياة الحديثة والإتجاهات الحداثوية الجديدة بهندسة يكون البناء الأوروبي أحد عناصرها المهمة يمتزج من التراث القديم للمدينة. لكن هذه المرحلة لم يُسلَط عليها الضوء كثيراً ولم يكترث لأمرها أحد رغم أهميتها وبالرغم من أن هناك العديد من المباني التراثية التي تعود إلى هذه الفترة موجودة في جميع شوارع طرابلس ووجودها يُذكرنا فيها.

«شارع عزمي بك» ذو قيمة تاريخية وأثرية

 

المهندسة زينة خطيب

ومن أحد أهم الشوارع الرئيسية المهمة في مدينة طرابلس هو شارع  «عزمي بك» إذ له  قيمة تاريخية وأثرية وذلك من خلال المراحل التي مر بها. شُيَدت الأبنية فيه على مراحل عدة، هذه المراحل هي من العام 1920- 1943 مرحلة الإنتداب الفرنسي ومن العام 1950- 1970 مباني الجمهورية ومن العام 1980 شُيدت المباني العصرية. هذا الشارع يمتلك خصائص معمارية مهمة في فترة الإنتداب الفرنسي وما تبعها، بالإضافة إلى أنه إسقاط لخليط معماري متنوع وأسلوب فريد للمزج بين التراث والحداثة على خط مستقيم واحد. ولكنه حالياً بحالة إهمال وتخريب وتشويه لمبانيه الأثرية في ظل غياب المراقبة والحرص على التراث للحفاظ على شكلها الأصلي وعلى نسيج الشارع، (صورة رقم 1).

رقم 1: صورة جوية تعود إلى العام 1936 (IFPO) الإمتداد العمراني من ساحة التل إلى «شارع عزمي بك»

تميز بواجهات جمالية وزخرفية

تميزت الأبنية التقليدية في شارع »عزمي بك« بواجهاتها الخارجية ذات الناحية الجمالية والزُخرفية عكس الأبنية الحديثة التي لم تعد تحتوي على أي نوع من أنواع الزخرفة والطابع التراثي.

وهذا يدل على تدني الإهتمام بالفنون الزخرفية واللحاق بالموضة العصرية ومواكبة الحداثة على  حساب التراث التقليدي. والإستدلال واضح من خلال الفرق بين الواجهات التقليدية والواجهات الحديثة في الشارع، حيث أنه في الشكل الخارجي في مباني 1920- 1943 تعكس الواجهة شكل المسطح الداخلي من خلال (الخرجة) التي هي البهو الوسطي في البيت. وهذا ما نراه في مسطحات المباني التقليدية في عزمي بك. إذ ان البهو الوسطي هو النموذج المُهيَمن فيها، حيث يتجه البهو الوسطي والواجهة الرئيسية نحو الشمال، حيت الشارع الرئيسي، (صورة رقم 2).

رقم 2: صورة تعود إلى العام 1940، وتظهر الشقق السكنية في الطوابق الأرضية في الشارع

عام 1925 دخلت عناصر جديدة

 ولالقاء نظرة مبسطة على المباني في هذا الشارع نلاحظ أن البيوت في «شارع عزمي» هي مبانٍ ذات هيكل إنشائي مصنوع من الباطون المسلح والمتعدد الطبقات.

في عام 1925 أصبحت المباني الخرسانية النموذج الجديد للمباني السكنية في المناطق الحضرية، وأُدخلت عناصر جديدة على واجهة المبنى، تضم الشرفة والخرجات.

أما البهو الوسطي فهو المكان الذي تجتمع فيه العائلة والمرور من خلاله إلى باقي الغرف، وهو على شكل طولي ويمتد إلى كامل عمق البيت، يتراوح عرض البهو الوسطي بين 3.5 إلى 4 أمتار ويعود ذلك إلى مقدار طول الواجهة.

يقع البهو الوسطي في وسط البيت، وتوزعت حوله الغرف، وبقي المطبخ والحمام في طرف الممر الضيق الموصل إلى المدخل وهو الممر الوحيد في البيت، وتتم تهوية وإنارة المطبخ والحمام من خلال النافذة المطلة على الواجهة الجانبية أو الواجهة الخلفية.

رقم 7: بناية محمد البابا، وتعود إلى أواخر الثلاثينيات

تشييد مبنى نادر

في النصف الأول من القرن العشرين شُيَد مبنى نادر في العمارة السكنية في «شارع عزمي بك» حيت يقع محور البهو الوسطي في وسط الواجهة مفتوح من خلال الفتحات المستطيلة الثلاثية الشكل المطلة على شرفة ناتئة من الباطون لتأليف متماثل على جانبي هذا المحور، (صورة رقم 3).

رقم 3: القاعة المركزية مفتوحة مباشرةً على الشرفة

عام 1930: الاسمنت والباطون المسلح

إبتداءً من العام 1930 أصبح الإسمنت إنتاجاً محلياً ومتوفراً في جميع أنحاء العالم، وإن إدخال الباطون المسلح كمادة بناء ساعد على تطور هذه العمارة.

ففي العام 1930 ظهر نمط جديد من المباني في الشارع تسمى الوكالة وذلك بتقسيم واجهة المبنى إلى إثنين أو ثلاثة أقسام عمودية ويتوسطها درج، هذا النموذج من المباني المتلاصقة التي تُشكل واجهة الشارع، هذه الواجهات مرتفعة عن الأرض وتصل إلى الأربعة طوابق وتتوسطها عدة خرجات على الواجهة تكون موازية للشارع، (صورة رقم 4).

رقم 4: مبنى المولوي، يتوسطه الدرج مع عدة خرجات على الواجهة

ثم طرأ بعض التغييرات على المنشآت، حيث أستُبدلت الشرفة المركزية بشرفات على جانبي البهو الوسطي لإستخدام كامل طول الواجهة وأصبح البهو الوسطي مفتوحاً على الخرجة التي أعطت مساحة داخلية للقاعة المركزية، كما سمحت برؤية أوسع إلى الخارج.

هذه المباني تتألف من أكثر من شقة في الطابق الواحد على شكل وحدات سكنية بمقياس صغير، الوحدة السكنية تتكون من مبنيين تحتوي على شقتين في الطابق الواحد، يتوسطهما الدرج وهو الجزء المشترك بينهما بمواجهة الشارع وهذا ما نراه في الصورتين رقم 4 و5.

رقم 5: مبنى يتوسطه الدرج مع عدة خرجات مركزية وشرفات جانبية منفصلة على الواجهة

«مبنى الآغا»

وحتى منتصف القرن العشرين كانت الأبنية بشكل وحدات متكاملة، وهذا ما نراه في «مبنى الآغا» هو بناء فريد من نوعه في «شارع عزمي» وهو مثال إستثنائي للوحدات السكنية.

وهذا البناء هو على شكل توأم،  يتألف من شقتين في الطابق الواحد ويرتفع إلى أربعة طوابق، مدخل البناء مواجه للشارع، أما الدرج الذي يُشكل الحركة العمودية في المبنى، فهو موجود في الواجهة الخلفية المطلة على شارع المطران. (الصورة رقم 6).

رقم 6: وكالة عبدالسلام وجيه حسين أغا، تعود إلى العام 1934

«بناية البابا»

كما نرى أيضاً بناية البابا التي تتميز في «شارع عزمي» بشكلها المثلت ولها ثلاث واجهات تطل على عدة جهات والتي يظهر التحول في عناصرها المعمارية حيث التوجه إلى أشكال بسيطة في الخرجات (الشكل المستطيل)، واجهة »البابا« تنقسم إلى قسمين عموديين ويتوسطها درج، خرجات الواجهة موازية للشارع لتشكل جدراناً كبيرة على طول الشارع الرئيسي والشارع الفرعي فهي تشكل واجهة طويلة بحدود 60 متراً على جهتي الشارع. (الصورة رقم 7).

رقم 7: بناية محمد البابا، وتعود إلى أواخر الثلاثينيات

قدرات الإسمنت غيرت تصميم الواجهة وظهرت الفرندات

في الثلاثينيات، سمحت إمكانيات وقدرات الإسمنت بأن يظهر تغيير في تصميم الواجهة فبدأت الشرفات الضيقة تتغير وتصبح أوسع واستُعملت الأعمدة من الباطون المسلح على الفرندا المركزية وهو تصميم راقٍ وفيه الكثير من الذوق، فنرى أن الشرفة مفتوحة على طول البهو الوسطي ومفصولة عنه من خلال الفتحات المستطيلة الشكل. يتبع هذا المبنى شكل حدود الأرض فالبهو الوسطي يشغُل كامل عمق المبنى وعرضه يصل إلى 4 أمتار وهو شقتان في الطابق، هذا البناء ممكن وصفه بأنه من المباني الفخمة. (الصورة رقم 8).

رقم 8: بروز الفرندات وهي سقف ناتىء مغطاة بسقف فوقها وعالية عن مستوى الأرض، محمولة على أعمدة

لغاية 1940 ظل مفهوم «البهو الوسطي» وبعد 1950 إختفى وظهر «الموزع»

على زاوية «شارع عزمي»، «تقاطع التوب» يقع بناء جدرانه يتبع شكل حدود الأرض ويعود إلى عام  1930 وهو من الطراز «الآرت ديكو».

هذه الإستراتيجية في البناء جديدة حيث تتألف واجهاته من النوافذ الجانبية المطلة على الشارع الرئيسي والشارع الفرعي أما واجهة الخرجة فتقع على زاوية المبنى مع نوافذ واسعة، وتم تصميمها بأسلوب جامد، كعنصر مساعد لتحديد موقع البهو الوسطي. (الصورة رقم 9).

رقم 9: هذا النموذج من المباني الفخمة بإمتياز والمُلفت للنظر من حيث الحجم، والأسلوب المبتكر

ظل مفهوم البهو الوسطي لغاية العام 1940 في «شارع عزمي بك»، فيما اختفى البهو الوسطي في الأبنية التقليدية في شارع عزمي ابتداءً من العام 1950 وحل مكانه الموزع في التقسيم الداخلي وذلك لأسباب تتعلق بالتغييرات المعيشية التي فرضتها أنظمة الحياة.

شارع بقيمة جمالية وتراثية لا بد من الحفاظ على نسيجه

يتبين مما سبق أن هذا الشارع في مدينة طرابلس يمتلك قيمة جمالية وتراثية وتاريخية لا بد من الحفاظ عليها وخصوصاً انه قد مرَ بفترات ومراحل تاريخية كثيرة من التطور الثقافي والمعماري. بالإضافة إلى أنه يُمثل نموذجاً لشوارع عديدة مماثلة في مدينة طرابلس وعليه لا بد من الحفاظ على نسيج هذا الشارع.

الطوابق المضافة تشويه لشارع تراثي

في المقابل، نلاحظ إرتفاع معدل الإستثمار السطحي والعام في شارع عزمي من حيث إضافة طوابق جديدة فوق المباني القديمة وهي عملية تشويه مُحتم للبناء التقليدي ويفقده بريقه وطابعه بدون أخذ النظر لتاريخه التراثي.

كما أن تغيير شكل واجهة المبنى يؤدي إلى تشويه الطابع التراثي ويفقد قيمته الجمالية.

وعليه لا بد من خفض معدل الإستثمار فيه وبهذه الطريقة ممكن أن نحافظ على بقاء هذه الأبنية من جشع المستثمرين المفتقدين لفهم التراث.

وفي حال الإضافة على البناء لا بد أن يكون بطريقة متجانسة مع المبنى.

وفي إعادة ترميم المبنى يجب المحافظة على شكله الأصلي كما يُمنع التغيير في حجم المبنى وخاصةً تفاصيل الواجهة.

ولا بد من وجود صيانة دورية ومراقبة من قبل لجان مختصة وبإشراف مهندسين مختصين في الترميم للحفاظ على قيمة «شارع عزمي» ومحيطه لما يمثله هذا الشارع من مكانة مهمة لمدينة طرابلس وأهلها.

*مهندسة معمارية، أستاذة محاضرة في «قسم العمارة» في «جامعة المدينة» (المنار سابقاً).

وحائزة على شهادة ماستر في الآثار والترميم من «الجامعة اللبنانية»

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.