د. سابا قيصر زريق: الثقافة في طرابلس بألف خير
ظهيرة ذلك اليوم من سنة 1974 لا ينساها الدكتور سابا قيصر زريق، وطُبعت في ذاكرته إلى الأبد، وحددت مسار «رحلته» في عالم الأدب والفكر وعلوم العربية، وان تتولد لديه تلك «الفكرة» ويوليها الاهتمام المعنوي والمادي خدمة لمشروع ثقافي ترسخ في ذهنه. وما ان تحققت الظروف الكفيلة بتحويله إلى «مؤسسة» ونضجت كافة المتطلبات، آثر التنفيذ وتراكمت الأفكار والانجازات… ونجح.
ونعود قليلاً إلى الوراء في ظهيرة ذلك اليوم شاء القدر ان يقوم الشاب سابا زريق بمرافقة جده الذي حمل اسمه وعُرف باسم «شاعر الفيحاء سابا زريق» إلى إحدى المستشفيات القريبة من منزل الجد القائم في بناية «الفيحاء» في أول طريق الميناء، الممتد بين طرابلس البلدة و«الأسكلة» – الميناء، تلك البناية التي شاء من بناها ان يُطلق عليها اسم «الفيحاء» تيمناً بسكن «شاعر الفيحاء» في إحدى شققها.
وعلى الرغم من قصر المسافة بين المنزل والمستشفى فقد دار حديث بين الجد والحفيد، تركز حول موقف طبيب الجد الذي حذر شاعر الفيحاء من إجراء عملية جراحية وانها قد تعرضه لفقدان حياته، إلاّ ان الجد آثر ان يخضع لها بالرغم من كل التحذيرات.
أكثر من ذلك فإن الجد شد على يد حفيده قائلاً: «اسمع يا سابا أنت تحمل اسمي وتعرف أني تفرغت في حياتي للتعليم ولنظم الشعر، وهناك ديوان لي طُبع في العام 1955، وهناك قصائد منشورة أو ما تزال أوراقاً منثورة على مكتبي أو في الأدراج، وعسى ان تتمكن من جمعها وإصدارها وان تقوم بحفظها وعدم تعرضها للضياع».
كان رد الحفيد «يا جدي سلامتك وستكون في أحسن صحة».
وأمام إلحاح جده أكد سابا التزامه بهذا «الوعد» الذي قطعه أمام جده الذي فارق الحياة في عشية ذلك اليوم… وبدأت الأفكار تزدحم في عقل الحفيد سابا زريق الذي كلما دعته الظروف ليسرد «حكاية» هذه الدقائق الأخيرة التي قضاها مع جده، تلمح في عينيه بريق دمعتين…
وعن كيفية نشأة فكرة تأسيس «مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية» تتويجاً لمسار السعي لحفظ نتاج الجد يجيبني الحفيد: فكرة إنشاء مؤسسة باسم شاعر الفيحاء تخليداً لذكراه كانت تراودني طوال الفترة التي كنت أعد فيها الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء، وهي مجموعة من ستة أجزاء تتضمن في الجزء الأول سيرة وحياة شاعر الفيحاء وبعض آثاره النثرية، والأجزاء الثاني إلى الخامس، أي أربعة أجزاء، تتضمن نتاجه الشعري بالكامل بما فيه الديوان الذي كان قد صدر سنة 1955 عن «دار الإنشاء»، أما الجزء السادس والأخير وعنوانه «منزلته الأدبية»، فقد جمعت فيه ما قيل عن شاعر الفيحاء قبل وبعد وفاته.
وعندما صدرت الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق سنة 2013 قمت بتوزيعها إلى كافة المعنيين بالشأن اللغوي والأدبي والثقافي، في لبنان وخارجه، بالإضافة بالطبع إلى الأصدقاء والأقارب والجامعات ومؤسسات التعليم الثانوي وغير ذلك، وفي إحدى أمسيات شهر آذار من سنة 2013، بعيد صدور الآثار الكاملة تلقيت اتصالاً من الأديب الدكتور جان توما يُعلمني فيه بأني مدعو لحضور ندوة تُعقد حول الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء في «بيت الفن» في الميناء في يوم السبت 20 نيسان 2013.
وطلب الدكتور توما مني إعداد كلمة ألقيها بالمناسبة، والمنتدون كانوا: د. زهيدة درويش جبور، والأستاذ شفيق حيدر، والدكتور مصطفى الحلوة، وكان عريف الاحتفال الدكتور جان توما.
وفي ختام مداخلته القيمة أصدر الدكتور الحلوة عدة توصيات ترمي إلى استذكار شاعر الفيحاء ومنها إنشاء مؤسسة بإسمه.
وهذا ما حفزني على الإسراع في التقدم من وزارة الداخلية بطلب علم وخبر بإنشاء «مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية» والتي كانت كما سبق وذكرت، مستنداتها جاهزة، وأبصرت المؤسسة النور في 7 حزيران 2013.
وما هي أهداف هذا المشروع الثقافي؟
هذه الأهداف تتلخص بالآتي:
المساهمة في نشر الثقافة الأدبية العربية في لبنان والعالم العربي والمهاجر اللبنانية، تعزيزاً للغتنا الجميلة، ومنذ تأسيسها دأبت المؤسسة على تحقيق هذه الأهداف من خلال عدة برامج.
هل من خطوات أو مشاريع ثقافية قمتم بتنفيذها أو تنوون القيام بها في هذا المجال؟
لم تتوقف المؤسسة منذ تاريخ تأسيسها عن تنفيذ مشاريع ثقافية وأدبية متعددة الأوجه يمكن ان نلخصها بالآتي:
– هبات الكتب: وهبت المؤسسة لمؤسسات تربوية ثانوية وجامعية ولمنتديات ثقافية وأدبية ولمكتبات عامة وخاصة في طرابلس شمال لبنان، عشرات الألوف من المؤلفات والمراجع رفدت بها مكتبات قائمة.
– كما قامت المؤسسة باستحداث أو تأهيل مكتبات وإنشاء قاعات متخصصة تحوي مراجع وكتباً باللغة العربية، أبرزها «قاعة شاعر الفيحاء سابا زريق» في المدرسة الوطنية الأرثوذكسية – مار الياس في الميناء، ومكتبة Espace Culturel Saba K. Zreik في مركز الدروس الجامعية في لبنان الشمالي – جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين – راسمسقا.
– جهزت المؤسسة قاعات مكتبات عديدة، بأثاث وأجهزة كومبيوتر.
– أما النشاط الأبرز الذي طلّت المؤسسة به ومازالت تطلّ، فهو رعاية طباعة وإصدار كتب للغير على نفقتها مع حفظ كافة حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين، وقد بلغ عدد إصدارات المؤسسة لتاريخه حوالي 40 إصداراً.
– تنظم المؤسسة مباريات ثقافية منفردة أو بالتعاون مع مؤسسات ومنتديات ثقافية.
– قامت المؤسسة بتكليف كورال الفيحاء بالعمل على تلحين قصيدة لشاعر الفيحاء عنوانها «نشيد الفيحاء»، وقام بالتلحين المؤلف الموسيقي المعروف إحسان المنذر، وأنشدها كورال الفيحاء، كما قصدت كرئيس لمؤسسة شاعر الفيحاء يرافقني المايسترو باركيف تسلاكيان قائد أوركسترا كورال الفيحاء العاصمة الأرمينية ياريفان، حيث قامت الأوركسترا الشبابية الأرمنية بعزف النشيد وكان قوامها 70 عازفاً.
ثم قامت المؤسسة بتسجيل النشيد وكذلك نشيد آخر من نظم شاعر الفيحاء هو «نشيد العلم» المعتمد رسمياً في لبنان والذي كان قد سبق ان لحنه الأخوان فليفل، على قرص مدمج يتم توزيعه كما الكتب التي توزعها المؤسسة.
– كما استحدثت المؤسسة ضمن حرم مكاتبها في طرابلس، مكتبة متخصصة باللغة العربية وآدابها تحوي ما لا يقل عن 2750 عنواناً، وهي مكتبة عامة تستقبل الباحثين والطلاب الذين يرغبون في الغرف من مخزونها الفكري والأدبي النفيس وذلك دون أي مقابل.
قمتم بإبرام اتفاقيات مع معاهد وجامعات منها جامعة القديس يوسف – مركز الدروس الجامعية، ماذا عنها؟
هذا صحيح، لقد أبرمت المؤسسة مع الجامعة اليسوعية وهي الجامعة التي تخرجت منها سنة 1975، عدة اتفاقيات: الأولى تقوم المؤسسة بموجبها بطباعة، على نفقتها الخاصة، أطروحة دكتوراه باللغة العربية يتمحور موضوعها حول اللغة العربية وآدابها، ينال مؤلفها درجة مميزة، عقب مناقشتها في كلية الآداب الشرقية في الجامعة.
أما الاتفاقية الثانية فهي تنظيم مباراة أدبية سنوية بالتعاون بين الجامعة اليسوعية ومؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، على مستوى لبنان، وبخاصة على مستوى الصفوف الثانوية، وتقوم لجنة تحكيم تعينها الجامعة والمؤسسة بتقييم الأعمال المقدمة، ينال بنتيجتها الفائز «جائزة شاعر الفيحاء سابا زريق للابداع الأدبي».
ونظراً للنجاح الملحوظ لمبادرة المؤسسة تجاه مركز الدروس الجامعية المذكور، قررت المؤسسة استكمالاً للمكتبة التي كانت قد قدمتها للمركز المذكور، إعادة تأهيل قاعتي محاضرات في المركز وتجهيزهما وتأثيثهما.
وللمؤسسة عدة مشاريع مستقبلية أبرزها تأسيس مكتبة الكترونية في مركزها بطرابلس تتضمن آلاف المؤلفات وذلك بدعم من رئيس «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» ومن المؤلف الأستاذ محمد السعيدي.
أتعتقدون أنكم أنجزتم أو حققتم وصية جدكم شاعر الفيحاء رحمه الله؟
لم تكن وصية المرحوم جدي تتسم بالبعد أو تتحلى بالطموح الذي حفزني على إنشاء المؤسسة ووضعها في خدمة طرابلس والشمال، إن جل ما أوصاني به المرحوم شاعر الفيحاء هو العمل على طباعة نتاجه الشعري بين سنة 1955، وهو التاريخ الذي طبع فيه ديوانه الأول، وسنة 1974 وهي سنة رحيله، والحمد لله تمكنت من تلبية طلب ملهمي الأول والأخير والإستفاضة.
برأيكم هل الثقافة في طرابلس بخير؟
أردد دائماً بأن كثافة وجودة الأنشطة الثقافية في الفيحاء لا تضاهي ما يجري في هذا المضمار في مدن أخرى في لبنان وحتى في العاصمة، بل تتجاوزها بأشواط كبيرة، وتشهد على ذلك الفعاليات الأدبية والفنية والثقافية، التي قلما يمر اسبوع دون ان يكون هنالك مناسبات عديدة في هذا المجال، وهذا يعني ان الثقافة في طرابلس بألف خير.