شخصيتان حملتا اسم «حسن الانجا» اختلفتا في الرؤى والممارسات والطباع!

شخصيتان طبعتا الوضع في مدينة طرابلس بميزاتهما المتناقضة والمختلفة وكان لهما تأثير مباشر على التحولات التي شهدتها طرابلس على امتداد عقود طويلة، وربما ما تزال بصماتهما قائمة إلى اليوم، من قِبل أحدهما على التل، حيث اختلف السكان وما يزالون باعتبار ان احدهما «مقرب» إلى القلب بصنائعه وروائعه وابداعاته، والثاني «نفروا» منه وتجنبوا التعامل معه.
هما، وإن كانا قد حملا الاسم نفسه والكنية ذاتها، لكنهما لم يلتقيا في الزمان نفسه ولم يكونا من أبناء جيل واحد أو فترة عمرية واحدة، فأحدهما فرض «سطوته» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والثاني بدأ مشواره الفني والثقافي خلال الربع الأول من القرن العشرين.
حسن الانجا أو الانجه هو الاسم الذي حملاه وعُرفا به بين الناس وطُبع في الأذهان وحُفظ في الكتب والمؤلفات.
ومن الأقدم في التاريخ من ناحية مولده وانتشار سمعته بين الناس وأبناء طرابلس بالذات، تبدأ حكاية حسن الانجا كوميسيير الشرطة في المدينة في عهد الحكم التركي وتحديداً خلال عهد السلطان عبدالحميد، ولهذه الحكاية تفاصيل وخبريات.
ففي السادس من أيلول من عام 1876 جرى تنصيب السلطان عبدالحميد على العرش العثماني الذي تولى السلطة بشرط وضع دستور للبلاد أو ما أُطلق عليه اسم «القانون وأساسي»، ولكنه سرعان ما أخل بهذا الشرط وغيره من «التوافقات» وانفرد بحكم البلاد والمناطق التي كانت خاضعة لسيطرة الأتراك.
وكان عبدالحميد الذي عُرف انه من أكثر السلاطين اهتماماً بالإسلام وبأوضاع المسلمين، قد قرّب إليه الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي من مواليد حلب، ويذكر ان من عادة السلطان ان يؤدي صلاة الجمعة في أحد مساجد الآستانة، كما يقول المؤرخ سميح وجيه الزين في مؤلفه «تاريخ طرابلس قديماً وحديثاً»، حيث قرر الأرمن اغتيال السلطان عبدالحميد، بوضع قنبلة موقوتة، في العربة التي تنقله من المسجد يوم الجمعة بعد أدائه الفريضة وكان دائماً يرجع في وقت محدد.
وصودف انه بعد ان وضع الأرمن القنبلة في العربة وقبل ركوب السلطان، استوقفه الشيخ أبو الهدى على باب المقصورة السلطانية وأخذ يدعو له بالنصر والتأييد والتوفيق على أعدائه، واستغرق هذا الدعاء بعض الوقت، والسلطان يقف عند باب المقصورة للاستماع إلى الدعاء، حيث أنفجرت القنبلة وقُتل الحوذي والجوادان ونجا السلطان.
وهكذا أصبح للشيخ أبي الهدى منزلة لا تقدر لدى عبدالحميد الذي اعتبر انه لولا توقفه للاستماع إلى دعاء أبي الهدى، لكانت القنبلة قد انفجرت وهو في داخل العربة وأدت إلى مقتله، ويقال ان للشيخ أبي الهدى صداقة تجمعه مع عبدالغني الإنجا، حيث توسط الشيخ لدى السلطان لتوظيف شقيق صديقه وهكذا حصل حسن الانجا على وظيفة رئيس الشرطة في طرابلس وعُرف بلقبه «كوميسيير الشرطة»، حيث ضبط أمور المدينة وخافه الأشقياء وقطاع الطرق، كما يقول يوسف الحكيم في مذكراته وكان يشغل منصب أمين السر في نظام المتصرفية الذي حكم جبل لبنان.
واشتهر الانجا بحماره أو «جحشته»، وانه إذا أراد ان يسهر أو يزور حفلاً ما، أرسل حماره إلى المكان المقصود، فيعلم الأشقياء ان الحفل محمي من الانجا فيرتدون عن أية محاولة للإساءة إلى هذا الحفل.
ويتناقل الطرابلسيون على سبيل الطرفة، انه عندما نفقت «جحشة» الانجا توافد «الأهلون» لتعزية حسن الانجا (!) ولكن حين توفي الأخير لم يشارك أحد في تشييعه، وهذا يجافي الحقيقة استناداً إلى أمرين، الأول ان ما يتم تداوله هو مجرد طرفة لا أصل لها، للاقتصاص من الكومندان الانجا وسطوته، أما الأمر الثاني فهو ان آل الانجا آنذاك كانوا من العائلات ذات الأصول والأنسباء وتعدد الأبناء والأحفاد والأصهار.
وقد طار صيتهم في البلاد التي حكمتها السلطنة العثمانية وتبوأ العديد منهم المسؤولية العسكرية والأمنية وتمكنوا من ضبط الأوضاع في الموصل مثلاً وفي المدن الشامية وكما أشرنا في لبنان أيضاً.
وقد صادف ان أحد العاصين على الدولة ممن يرغب حسن الانجا بإلقاء القبض عليهم، اغتنم فرصة وجود باخرة روسية في الميناء، فنزل في زورق الوكيل باعتبار ان الامتيازات الأجنبية تحميه ولن تسمح بإلقاء القبض عليه.
ولكن الانجا والذي كان يراقب المذكور من الشاطىء بواسطة منظار، أسرع ومعه بعض الأنفار من الشرطة، فنزل إلى الزورق ونزع عنه العلم الروسي والقى القبض على المطلوب بالرغم من احتجاج القنصل.
وقد وصلت القضية إلى الآستانة واضطرت الحكومة العثمانية إلى الاعتذار وعزلت حسن الانجا من وظيفته، إلا انها عادت وانعمت عليه ورفعت درجة وظيفته.
لذلك تولد ذلك التناقض في المواقف الشعبية والأهلية في الكوميسيير حسن الانجا، ففي حين اعتبر فريق منهم ان الانجا قد قام بدوره ووضع حداً للأشقياء وبسط الآمن في المدينة، كان للبعض الآخر موقف مخالف ينبع من الانتهاكات التي ارتكبها خلال وظيفته ومنها كم الأفواه، وإلحاق الظلم بالأبرياء.
وهنا لا بد من الوقوف عند الدور الذي قام به الكومندان حسن الانجا عند غرق الدارعة الانكليزية «فيكتوريا» قبالة شاطىء طرابلس في 22 حزيران من العام 1897 وكانت ضمن أسطول انكليزي مؤلف من 17 قطعة حربية.
حينها بذل الإنجا وعناصر شرطته جهوداً مضنية أفضت إلى انتشال جثث 29 ضابطاً و262 بحاراً أما بقية عناصر الدارعة فكتوريا وعددهم 340 بحاراً و22 ضابطاً فقد قضوا نحبهم غرقاً تحت الماء ولم يظهر لهم أثر، وقد تم دفن الجثث في أرض بمحلة مقابر الأسكلة «الميناء»، وهي من الأراضي الأميرية خُصصت لدفن هذه الجثث.
القومسير الانجا أخاف الأشقياء «وجحشته» فرضت الهيبة والسطوة و«مسرح الانجا» أو «الباروكيه» تياترو أحدث تحولاً ونقل المدينة إلى عالم جديد
في تلك الآونة برز أيضاً اسمان متشابهان هما مصطفى الانجا مدير الأسكلة ومصطفى باشا الانجا الرجل المحسن البار الذي هبّ لنجدة أبناء مدينته الذين اضطروا إلى مغادرة طرابلس إبان الحرب العالمية الأولى واشتداد الجوع ووقوع المجاعة واللجوء إلى المناطق الداخلية تخوفاً من ضرب طيران قوات الحلفاء للمدن التي تخضع لحكم العثمانيين، وهو من أبناء طرابلس ومن مواليد 1852 وقد أنجب خمسة أبناء وأربع بنات.
وهنا لا بد ان نلاحظ ان الأقدمين من كتّاب ومؤلفين قد ميزوا بين عائلات الانجا أو الانجة وأنسبائهم وأصولهم فكتبوا «الانجا»، بالألف الممدودة، للدلالة على العائلة من أصل «حلبي» ومنها الكوميسيير حسن الانجا، أم «الأنجة»، بالتاء المربوطة، فهي من أصول تركية وبعضها أيضاً كُتب بالألف الممدودة ، كما هو حال «المبدع» حسن الانجة أو الانجا صاحب دار الأوبرا التي حملت اسم «تياترو زهرة الفيحاء» وأيضاً مسرح سينما «الباروكيه» في الوسط التجاري في المدينة، وعُرف المبنى باسم «سينما الانجا».
ولكن الكتابات والمدونات، واستناداً إلى الوثائق الصادرة عن دوائر الأحوال الشخصية في تركيا وفي عدد من مدن الولايات التي كانت خاضعة للعثمانيين، تُظهر أن أسماء أبناء العائلة الواحدة كُتبت أحياناً «الانجا» بالألف الممدودة وأحياناً بالتاء المربوطة وأحياناً أخرى مع «ال» التعريف وكذلك من دونها.
ويستدل من كل ذلك ان هذه العائلة من «أرومة» واحدة توزعت في أنحاء مختلفة وتعدد أبناؤها وأنسباؤها وأحفادها وأصهرتها، فالعائلة من أصل تركي، انتشروا في البلدات المذكورة آنفاً وربما نزحوا من هذه الأمكنة إلى أماكن أخرى ولكن هذا التنقل لا يبرر تسمية البعض منهم أنهم من أصل حلبي أو عراقي من «الموصل» أو بلاد الكرد مثلاً فهم جميعاً أتراك أينما حلوا وتكاثروا واتسعت ذريتهم.
ومن هنا نعود إلى رجل امتاز برؤية وانبهر بأضواء الحضارة والتمدن والرقي، هو حسن الانجا، الذي حمل الاسم نفسه للكوميسيير حسن الانجا الذي سبقت الإشارة إليه، علماً ان العائلة عرفت أيضاً تداولاً غريباً في الأسماء ذاتها فنرى اسم محمد أو مصطفى يتردد كثيراً من الجد إلى الأب إلى الحفيد ليتكرر ذلك في الجيل الثاني وهكذا دواليك للحفاظ على اسم الابن البكر.
حسن الانجا المثقف كان لديه منذ مطلع شبابه شغف بالتطور الأوروبي وتنقل مراراً بين القاهرة وروما وأدهشه المسرح بكل أنواعه، وعزم على فكرة «خطيرة» آنذاك، وهي أن ينقل هذا الفن الراقي إلى مسقط رأسه وان يبني مسرحاً في طرابلس، وحتى لا يبقى الأمر مجرد فكرة، شمر عن ساعديه وبدأ العمل.
أجرى الانجا الاتصالات مع كبار البنائين والمعماريين الإيطاليين وتم وضع الخرائط والرسوم للمسرح الطرابلسي الأول من ناحية التصميم والبناء في مفتتح القرن العشرين، حيث كانت بعض المباني في المدينة تأخذ طريقها إلى التنفيذ وفق العمارة الأوروبية على أيدي مهندسين مختصين بهذه الأساليب والأنماط والزخارف، في حين كان المسرح في طرابلس هو عبارة عن حيّز خشبي يعلو عن الأرض حوالي المتر ويقوم في صدارة هذا المقهى الشعبي أو ذاك، ويقتصر الحضور على الذكور، والكراسي من القش والخيزران وهي متحركة وفق حركة الأراكيل (النراجيل).
«مسرح الانجا» أو «مسرح زهرة الفيحاء» كما تمت تسميته في المرحلة الأولى للتأسيس، لم يكن عادياً بل كان «داراً للأوبرا» في الوسط صفوف ثابتة للمقاعد الوثيرة المريحة، وعلى الجانبين مقصورات تتسع كل واحدة لأربعة مقاعد ليختلي فيها بعض كبار القوم مع أفراد عائلاتهم ويتابعون مشاهدة المسرح دون ان يراهم أحد من الموجودين في الصالة.
وطبعاً الانجا استمد هذه الأفكار مما اطلع عليه خلال مشاهداته في «أوبرا القاهرة» أو روما أو بقية المدن الأوروبية، ولذلك استقدم أيضاً مهندسين ورسامين ايطاليين نفذوا لوحات ضخمة لاستخدامها في عملية تغيير المشاهد، ولعمري ان هذا الأسلوب لم يكن قد وُجد بعدُ في طرابلس وأحدث ضجة وترحيباً.
انتشر خبر العروض المسرحية الأولى بالعربية والأجنبية لدى الأهالي، فتقاطروا لحجز أماكنهم ومشاهدة ما يمكن وصفه بالأعجوبة.
كان ذلك في أعقاب الانقلاب الذي قام به الاتحاديون ضد السلطان عبدالحميد، وإعلان الدستور في العام 1908، حيث استفاد حسن الانجا من هذه الأجواء وحث الخطى لاستكمال التنفيذ في العام 1911 ولكن نفير الحرب العالمية الأولى استدعى إلى تجميد هذا المشروع.
ولكن مع نهاية الحرب عاد مسرح الانجا إلى زخمه واستقبل العديد من الفرق الأجنبية مع ازدياد تقاطر الوفود الأجنبية من قناصل وتجار إلى المدينة، كما استقبل «مسرح زهرة الفيحاء» الفِرق العربية وبالتحديد المصرية، كفرقة عكاشة، وفرقة اسكندر فرح، وفرقة الشيخ سلامة حجازي التي عرضت مسرحيته المعروفة (شهداء الغرام أو روميو وجوليت).
وقصد هذا المسرح نجيب الريحاني وفرقته، واسماعيل ياسين، ومن المطربين والمطربات أم كلثوم، ومع انتشار التيار الكهربائي في المدينة في العام 1931، تم استخدام التياترو أيضاً كقاعة للعروض السينمائية واتخذ المسرح اسماً جديداً له هو مسرح وسينما «الباروكيه».
هذا الانجاز الحضاري الذي صمد رغم المصائب والويلات التي لحقت بالمدينة في حقب مختلفة استمر شاهداً على رقي صاحبه ورؤاه على امتداد قرن تقريباً، ولطالما توقف عن استقبال واستضافة الرواد الزائرين للظروف والأوضاع المعروفة التي مرت بها المدينة، غير انه كان يعود إلى «نبضه» في ساحة لطالما كانت «قلب» المدينة النابض وتعج بالمؤسسات والمشاريع والتاريخ وكانت متحفاً حياً للروائع و«مسرح الانجا» كان واحداً منها، وبالرغم من «عجزه» كان من المتوقع ان تعود إليه الحياة، غير انه قُدر له ان يقضي نحبه.