طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

القدس عاصمة فلسطين الابدية

… مَن نلوم؟
مَن نلوم على التراجع الكبير والدراماتيكي في الموقف العربي، بشكل عام، وبالأخص في ما يتعلق بالقضية المركزية، قضية فلسطين؟
مَن نلوم على مسلسل التقهقر الذي يعاني منه حق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى وطنه، وبإقامة دولة خاصة به (على ما يمكن تحريره من الأرض السليب)، وبحصوله على حقوقه الإنسانية في تقرير مصيره، إضافة طبعاً إلى الحق في العيش الكريم والآمن وفي بناء مستقبل زاهر له وللأجيال المقبلة؟
مَن نلوم، إذا ما جاءك رئيس أميركي متعجرف ومستهتر وجشع، لا يقيم وزناً لقوانين دولية أو لأعراف أو لحسابات تتعلق بالسلم في العالم، أو لحد أدنى من حقوق الإنسان، بل يحتقر بشكل معيب وأحمق كل من لا يشبهه في غطرسته وعنصريته وأنانيته؟
مَن نلوم، إذا ما أقدم هذا الرئيس على فعلة استنكرها العالم كله، معترفاً رسمياً بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني «إسرائيل»، ومقرراً نقل سفارة بلاده إليها، ضارباً عرض الحائط عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وبقدرها وأكثر قرارات صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتتعلق تحديداً بمدينة القدس، بصفتها محضناً للديانات السماوية، وكون القسم الشرقي منها قد إحتُلَّ في العام 1967 ويخضع لقرار مجلس الأمن 242 المتعلق بالعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967، اضافة إلى الاقتراحات العديدة التي قدمت من قبل دول عظمى وكبرى، ومنها جعل القدس عاصمة دولية، أو جعل قسمها الغربي عاصمة للكيان الصهيوني وقسمها الشرقي عاصمة لدولة فلسطين، وهذا على اساس «حلّ الدولتين»؟
مَن نلوم؟
هل نلوم هذا الرئيس الأميركي الأخرق البشع، أم نلوم الدول الكبرى في العالم، أم نلوم الرأي العام الدولي، أم نلوم «إسرائيل»، أم نلوم النظام العربي الرسمي العفن، أم نلوم أنفسنا؟
المعضلة كبيرة، فهذا الإستهتار المتمادي بالحق العربي في أكثر من مكان في هذا العالم، وبالأخص في منطقتنا، لا يمكن أن يكون إلاّ نتاجاً لأزمة كبيرة تعاني منها أمتنا العربية ودولها العديدة، أزمة ترتبط بهيكلية النظام العربي، بدءاً بالجامعة التي تضم دول هذا النظام، وصولاً إلى داخل كل دولة عربية على حدة.
فالمواطن العربي لا يعاني فقط من أزمة الاحتلال الإسرائيلي لقسم عزيز من بلاده، ولا يعاني فقط من الاستنزاف الذي يسببه هذا الاحتلال لفسطين ولمناطق عربية أخرى، ولا يعاني فقط من المخاطر التي تتهدده يومياً بسبب أطماع المحتل الإسرائيلي الرابض على جزء يمثل قلب الوطن العربي الكبير. لا يعاني هذا المواطن فقط من هذه الأمور بل أيضاً من استبداد داخلي يحرمه حقه الطبيعي في الحرية والكرامة والتعبير والنقد والمعارضة، ويُخضعه لشتى أصناف الضغوط والقمع والتنكيل والتعذيب والقهر والسجن والعسف، وصولاً الى الالغاء والتصفية.
إذاً، المسألة أكبر من قرار يتخذه شخص واحد يتولى رئاسة أكبر دولة في العالم، المسألة تتعلق بأنظمة عربية تثير الغثيان لجهة ضعفها المهين والمبتذل والفاضح تجاه الخارج، وفي المقابل سحقها الكامل للإنسان فيها ودفعه إلى الاختيار ما بين اربعة: الخضوع التام، أو الاعتقال المديد، أو القتل، أو… الهجرة، وقد سلك معظم المتنورين والمتعلمين والموهوبين والاختصاصيين درب الخيار الرابع، أي ترك البلاد والذهاب إلى حيث يُحترم الإنسان ورأيه، وتُقدّر قيمته، ويُسمح له بالعيش بأمن وسلام، دون إعاقة أي طموح يوصِل إلى أي موقع علمي او ثقافي او سياسي… أياً تكن طبيعته.
فنحن نعيش في دول ضعيفة مرتهنة تخضع للأجنبي وتستمد منه انظمتها الحماية والرعاية، وفي المقابل تسحق الانسان فيها نفسياً، وجسديا… إن كان فهمه ثقيلاً.
فكيف لدول كهذه أن تغيّر حرفاً واحداً في أي قرار يُتخذ ضد العرب؟
ويأتيك من يسأل: تريدون حرية… ألم تروا ماذا فعل «الربيع العربي» بكم؟
الجواب هنا بسيط، وهو أن الشعب العربي قد وُضع في السنوات الأخيرة، بفعل فاعل وبخطة ممنهجة ومحكمة، أمام خيار من أثنين لا ثالث لهما، إما القبول بجزمة الأنظمة الاستبدادية، أو الذهاب إلى الفوضى العارمة «بمساعدة» كل أشكال التطرف والهذيان، المستوردَة من كافة أنحاء العالم، و«الموظَّفة» للعب دور يبرر لأنظمة القمع ممارسة كل أنواع الاجرام والتوحش، بحجة مواجهة التوحش الآخر.
هذا يعني أن العرب ممنوعون من العيش في دول ديمقراطية مدنية حضارية تحترم مواطنيها وحقوقهم، وتستمد قوتها من الشرعية التي يمنحها لها هؤلاء المواطنون الاقوياء والاحرار.
نعم، وضعوا الشعب العربي أمام خيارين فقط: إما جزمة الاستبداد و«ألوهية» الديكتاتور المتوحش، أو توحش التطرف وفوضاه وهلوسته وعبثه اللامعقول، كي تبقى دولنا وأمتنا في حال الضعف التي هي فيها. لكن ما نشاهده اليوم «لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ ونحن محكومون بالأمل» كما قال يوماً في بيروت الكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس. ولم تكن حال الامة أفضل (ممالك وامارات ودول تتقاتل فيما بينها) عندما خرج صلاح الدين ليحرّر القدس من نير احتلال الفرنجة.
«وتريات ليلية»
في النهاية، أعادت قضية القدس وقرار ترامب، إلى الأذهان قصيدة «وتريات ليلية» التي نظمها الشاعر العراقي مظفر النواب في سبعينيات القرن الماضي، ولقد اخترنا سطراً منها ليتصدر غلاف هذا العدد: «القدس عروس عروبتكم؟».
ومما جاء في قصيدة النواب ما يلي:
«القدس عروس عروبتكم؟
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها ان تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم أولاد (…) هل تسكت مغتصبة؟
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم لا تهتز لكم قصبة
الآن أعرّيكم
في كل عواصم هذا الوطن العربي
قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي
أصبحت أحاذر حتى الهاتف… حتى الحيطان…. حتى الأطفال…
(…) أصرخ فيكم
أصرخ أين شهامتكم
إن كنتم عرباً… بشراً.. حيوانات…
حتى الذئبة تحرس نطفتها
والكلبة تحرس نطفتها
والنملة تعتز بثقب الأرض
أما انتم
القدس عروس عروبتكم؟
(…) خلوها دامية في الشمس بلا قابلة
ستشد ضفائرها وتقيء الحمل عليكم
ستقيء الحمل على عزتكم
ستقيء الحمل على أصوات إذاعاتكم
ستقيء الحمل عليكم فرداً فرداً
وستغرز إصبعها في أعينكم
أنتم مغتصبيَّ
حملتم أسلحة تطلق للخلف
وثرثرتم ورقصتم كالدببة
كوني عاقر يا أرض فلسطين
فهذا الحمل مخيف
كوني عاقر يا أم الشهداء من الآن
فهذا الحمل من الأعداء دميم ومخيف
لن تتلقح تلك الأرض بغير اللغة العربية
يا أمراء الغزو فموتوا»
… ولن تكون القدس إلا عربية وعاصمة أبدية لفلسطين، مهما عملوا على تزوير التاريخ، ومهما بلغ «تطهيرهم» العرقي، فلن يموت هذا الحق، كما لم يمت حق ضحايا الفصل العنصري في جنوب افريقيا في العيش بكرامة وحرية وفي تقرير مصيرهم، فانكسر القيد وذهب العنصريون الى مزبلة التاريخ، فيما سكن مانديلا في قلوب وضمائر عشرات ملايين الناس، وصار رمزاً للصبر والارادة و…الأمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.