طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

المطران خضر في كتابه «القدس»: قبولنا القدس عاصمة إسرائيل الأبدية ليس فقط الظلم شريعة، بل إنه الكفر بأبدية الله وارتضاء الاغتصاب»

د. الياس خليل زين…

«أن نقبل القدس عاصمة لإسرائيل أبدية، هو ليس فقط أن نقبل الظلم شريعة، بل إنه الكفر بأبدية الله، وإرتضاء الاغتصاب، 

نسق وجود».

هذا القول الجريء هو للمطران جورج خضر، مطران البترون وجبيل للروم الأرثوذكس. وجاء ذلك في ندوة «لقاء القدس» بيروت، في 17 حزيران 1996. ونُشر هذا اللقاء في كتاب المطران بعنوان «القدس» الصادر عن «تعاونية النور الأرثوذكسية» للنشر والتوزيع، في بيروت في شهر نيسان 2003.

وقام بكتابة «مقدمة» الكتاب، المؤلف من 82 مقالة ودراسة تتمحور حول القدس والقضية الفلسطينية، الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش.

ان الغاية من هذه الدراسة، هي أن نُبرز الموقف المتميز للمطران خضر من القدس خاصة، والقضية الفلسطينية عامة.

في البدء، يجدر التوقف قليلاَ عند رأي الشاعر محمود درويش في كتاب المطران خضر. إستهل درويش مقدمته، بالنص الآتي:

«يكتب المطران جورج خضر عن فلسطين، كما يكتب العاشق عن الحب. ويكتب عن القدس، كأنه يُصلّي. فكره يقود قلبه، وقلبه ينير فكره، إذ لا فاصل واضحاً بين الزمني والروحي، عندما تصير المدينة جُلجلة.

هذا المطران، المسكون بهاجس العدالة والحرية والمحبة، والتماهي مع كرامة المعذّبين، هو أحد الكبار في الثقافة العربية، الذين عرّفتهم فلسطين على أنفسهم… فلم يعد يحدد نفسه بالنسبة للعقيدة، بل بالنسبة للجرح – كما يقول أيضاً – منذ اللحظة التي أصبح فيها المسيح الناصري لاجئاً فلسطينياً» (ص9).

ويضيف: «في أكثر من صفحة يلحّ المطران خضر على القول إن القدس «بشر لا حجر». ويُنبهنا إلى ان البحث الصحيح، في قضية القدس، هو البحث في شعبها، لا في دينها، أو الأنبياء، ولا يمكن فهم المدينة إلاّ من تاريخ دنيوي، لا من سجّل أخروي، لأن الأُخروية تهبط من فوق، ولا تطلع من الأرض».(10-9) .

القدس اليوم هي «أورشليم القديمة»، ويقول المطران خضر، لما فتحها العرب (عام 638 م)، كان إسمها «إيلياء». وهو إسم روماني عادي. وبعد الفتح صارت القدْس، أو القدُس. وهي والتقديس واحد. والتقديس تنزيه الله تعالى وتبارك. و«القدوس» إسم من أسماء الله الحسنى. وهو الطهارة الكاملة. وبيت المقدس، أي البيت المتطهر، هو المكان الذي يُتطهر به من الذنوب. هذا هو المصطلح الإسلامي (ص19).

فلسطين هي معيار الولاء للمسيح

ويرى المطران خضر إن فلسطين أصبحت هي معيار الولاء للمسيح، ولكي تكون مسيحياً يتعين عليك ان تتخذ موقفاً من فلسطين. ويقول بالحرف:

«لقد أصبحت مأساة فلسطين مليئة بالآلام. وظهر أكثر من بطرس وأكثر من يهوذا ينكرون المسيح. وهنا يجري تقرير مصيرنا ومستقبلنا. ولكي تكون مسيحياً يتعين عليك أن تتخذ موقفاً من فلسطين. إنها تمثل لنا الصورة ذاتها للإنسان المتألم. إن هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء الذين قُذف بهم من وطنهم إلى الصحراء ليفنوا وليتعذبوا وليموتوا كما مات المسيح متعذباً، يشكلون «الكنيسة تحت الخيام» طبقاً لتعبير قديم في أدبنا الروحي. لم تعد الكنيسة تضم فقط الذين تعمدوا، بل صارت تضم أيضاً جميع المضطهدين على الأرض. ولهذا فإنني لم أعد أحدد نفسي بالنسبة إلى العقيدة بل بالنسبة إلى الجرح. ولقد أصبحت فلسطين هي معيار الولاء للمسيح». (ص123).

مصير العرب اليوم يجري تحديده

ويعتبر المطران خضر، انه اليوم يجري تحديد مصير العرب على هذه الأرض، ويقول بالنص: «واليوم يجري تحديد مصير العرب على هذه الأرض. إنهم هم الذين هبطوا إلى الجحيم.

وجميع الذين هبطوا إلى الجحيم ينتمون إلى المسيح. إن روابط العروبة هي التي توحد بين هؤلاء الرجال الذين يتوقون إلى الحرية والعدل. إنني لا أقدم تعريفاً حيوياً أو وطنياً للعروبة.

ولكنني أستعمل هذه الكلمة اليوم على أنها تمثل طائفة المتعذبين، ولكنها في البدء، وعلى مستوى ثقافي، كانت وعداً ذا طابع عالمي. وفي مؤتمر عُقد مؤخراً بين ممثلي ديانات مختلفة، سمعنا مثقفاً مسلماً ورِعاً يقول: «إنني بحاجة إلى مسيحي لأنه يؤمن بإله متعذب»، وأود أن أعلن هنا أن العالم يحتاج اليوم إلى العرب ليجد فيهم هذا المخلص الذي يشاطره عذابه». (ص123).

لماذا إختار المطران العروبة؟

أما بالنسبة للمطران خضر، فيقول لماذا اختار العروبة؟

يجيب المطران عن سؤاله بالآتي:

«فقد اخترت العروبة منذ الوقت الذي أصبح فيه المسيح الناصري لاجئاً فلسطينياً. وضمن هذه العروبة الحنون المتواضعة الأمينة تستطيع المسيحية والإسلام أن يلتقيا ويتفاهما. وفي هذا المجال تستطيع المسيحية الشرقية أن تؤدي دوراً عظيماً. إن مسيحية المعوزين في الشرق العربي، المسيحية التي لا تربط نفسها بالحضارة المسيحية الغربية المزيفة، هي القادرة في كفاحها من أجل المتواضعين والمظلومين على مخاطبة الإسلام». (ص124).

«لا شيء حركني مثل إنتفاضة الحجارة»

يبدو ان المطران خضر لا شيء حرّكه، من كل المشاهد الفلسطينية، مثل «إنتفاضة الحجارة»، منذ تفجرها حتى عودتها اليوم». ونشر هذا الكلام في صحيفة «النهار» في 14/10/2000، وفي هذا السياق، قال المطران الآتي:

«من كل المشاهد الفلسطينية، لا شيء حركني مثل «انتفاضة الحجارة»، منذ تفجرها حتى عودتها اليوم.

يدهشني أن فتياناً عُزّلاً (ما فعل هذه الحصى؟) يقولون لا لعسكر. هذا الرفض كان عندي قِمّة في بلاغة الصد، قِمّة في الشهادة، كما نفهمها إنجيلياً. في خطها وأفصح كان عندي موت هذا الطفل الربيعيّ، محمد الدّرة، الذي قلت عنه في موعظتي الأحد الفائت: «نحن مع محمد الدرة حباً واسترحاماً». في الليلة التي تلت القداس، تابعت ياسر عبدربه في برنامج «حوار العمر». خلال ثلاث ساعات استطاع ان يتكلم على آلام شعبه، بلا حقد. المقاومة الفلسطينية صارت عند بعض، أو عند كثيرين، تراث حب». (ص47).

ماذا يجب على الكنيسة المسيحية ان تعمل؟ يجيب عن هذا السؤال بالآتي:

«والقوة الحقيقية واقعة في التاريخ والسياسة، فهي تدخل فيهما كالجرح في لحم الناس، وتجد فرصتها بيننا. ويجب على الكنيسة المسيحية أن تنظر إلى حقيقة، أن هناك ثورة، على أنها تمثل المحبة والخدمة والعزاء للذين اختاروا أن يكونوا ثوريين، بدلاً من أن تتخذ موقفاً مذهبياً تجاه هذه الحقيقة. إن الكنيسة ذاتها تعيش في ظروف الحياة الشديدة التوتر، قدر ما تعيش في أزمنة السلام». (ص124).

العرب الأرثوذكس وحقوق الشعب الفلسطيني

يقارن المطران خضر بين العرب الأرثوذكس والمسيحيين القادمين من الغرب. ويرى أن هناك فرقاً كبيراً في موقفهم من حقوق الشعب الفلسطيني، وفي هذا السياق، يقول بالحرف:

«المسيحيون القادمون من الغرب، لا يهمهم من ديانة الحكم شيء، ولا يهم البطريرك اليوناني القائم على كنيسة أورشليم، إلاّ الحفاظ على الأوضاع الراهنة للأماكن المقدسة. نحن، العرب، الأرثوذكس، كنا أول من نحت فكرة حقوق الشعب الفلسطيني في الأوساط المسيحية العالمية. ومنا انتقلت إلى أوساط هيئة الأمم. القدس إن بحثت في أمرها، دينياً – وهذا له شرعيته – ولم تترجم ذلك إلى كلام سياسيّ تفقدها، لأن مسيحيي الغرب لا يهمهم شيء من أمر مسيحيي الشرق». (ص109).

علينا ان نصر على حقوق الإنسان في قضية القدس

يعتبر  المطران خضر ان الأطروحة لقادة إسرائيل والإشتراكية الصهيونية، تبقى «أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. وهنا أريد أن أجترّ ما حاضرت فيه في الولايات المتحدة، خصوصاً قبل ثلاثين عاماً، وهو أننا، نحن العرب، نحتاج إلى ان نُعلمن القضية الفلسطينية، وتالياً إلى أن نُعلمن قضية القدس، بحيث نُصر على حقوق الإنسان فيها، إذ يبقى إلحاحنا على المبدأ القانوني، بعدم التغيير لمعالم المدينة، أي بعدم تهويدها عمرانياً وسكانياً، وهذا بإستفتاء الشعوب الإسلامية، أولاً» (109)، نُشر هذا المقال في «النهار» في 26/11/1996.

يؤكد المطران خضر «إن العرب لن يرموا أحداً في البحر، لأنهم ليسوا قتلة». وجاء في مقال «مجد الإنتفاضة»، نُشر في «النهار» في 18/11/2000، ومما جاء فيه: «لن يرميهم العرب في البحر. ليس العرب قتلة مجَّانيين. إن الفِتية الفلسطينيين علَّموا العالم، أن صراعهم هو من أجل الإنسان، عربياً أكان أم يهودياً. سيجد العائشون على أرض فلسطين، ان اسم التعايش اليوم، هو الكرامة. عند اجتماع الناس جميعاً عليها سيجدون صيغة للعيش الواحد المتعدد الجنس والمتعدد الثقافة. إن أفق الانتفاضة ليس حكر العرب لفلسطين. إنه أفق الإنسانية الحضارية. غير أن هذا قد يقتضي بذل دم كريم، أي صبراً طويلاً. «ومن يصبر إلى المنتهى، يخلص»». (ص57).

وفي الختام، يعترف المطران خضر لهذا الشعب العظيم، لأنه عانى، ولا يزال يعاني، من ظلم الإحتلال. ويقول بالنص: «ليس شأني أن أتحدث عن علاقة القدس بكل هذا الواقع المرير القهار، القائم حالياً في الأراضي المقدسة. إن كل ما حل بأهل فلسطين، من ظلم، لن يكون أقصى الظلم لو اعتُرف لهذا الشعب بأن يتغذّى روحياً وحضارياً من القدس. هذه هي القوة المحيية لهذا الشعب العظيم، ولذلك، يجب أن تنفتح من جديد مجاري الينابيع الحيّة، المنفجرة في القدس لنرتوي ونشكر».(95)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.