طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

45 سنةً… وتستمر حرةً (2008)… لقد فقدنا عزيزاً

من العيب، اليوم تحديداً، ان يكذب أيُّ عامل في الشأن العام، وفي الشأن الاعلامي خاصة، على اللبنانيين الذين عاشوا أياماً صعبة فعلاً في الفترة الاخيرة.

ما يجب مصارحة اللبنانيين به اليوم، هو ان هناك منهم من بدأوا فعلاً حربهم الاهلية الجديدة مع الاسف، ونظراً لذاكرتهم الضعيفة هم يستعدون الآن، نفسياً ولوجستياً، لخوض جولة ثانية من جولات حرب قذرة كان الاسبوع الماضي مسرحاً لجولة أولى منها، فيما يبدو ان حربنا الجديدة ستكون «بكل فخر» أَشرس وأقبح من الحرب السابقة، و«سيتفنّن» المتواجهون فيها في أذيّة بعضهم البعض وسائر الناس المسالمين في هذا البلد. فمن السذاجة بمكان القول إن من أراد هذه الحرب، وأَعلنها صراحة، لم يكن عالماً بأن النتيجة الاولية هي استنفار العصبيات والمذهبيات والاحقاد يميناً ويساراً، وبأن وكراً للدبابير قد فُتح فعلاً، ليظهر الكثير من اللبنانيين، المختلفي الانتماءات، قدراً كبيراً من الاجرام والعنف، والتعطش الى القمع والهيمنة والترهيب والالغاء والى الدمّ ثم الدمّ ثم الدمّ.

كذلك، علينا الاعتراف بأن هناك ايضاً اناساً في هذا البلد يرفضون في المطلق الذهاب الى العنف، اياً تكن الاسباب، وهم اليوم مذعورون مخافة ان تكون جريمة اللجوء الى العنف المسلّح في الاسبوع الماضي، قد دفعت الكثيرين، من مختلف الجهات، بعدما انجلى غبار «الجولة الاولى»، الى الاستعداد جدياً لجولة مواجهة ثانية، لا يعرف غير الله أَساليبها وخلفياتها ومسوّغاتها وايديولوجياتها وما يمكن ان تسفر عنه من مشاهد سوريالية شنيعة قد تكون مبتكرة او مستنسخة من تجارب اخرى «عظيمة» عرفتها مناطق اخرى من العالم، قريبة او بعيدة.

ها قد وقعت الفتنة، ومن العيب ان نقول للناس غير ذلك، او ان كل شيء على ما يُرام، او ان ما حصل كان «للقضاء على الفتنة»، وغير ذلك من سخافات لا نعرف إن كان من يقولها يصدّق هو نفسه هذا الكلام، بعد إشعال النار وإطلاق العنان لحفلة هيجان شعبوي مريع.

لكن، علينا ان نسأل أنفسنا والناس، عن النتائج الحقيقية التي أسفرت عنها الجولة الاولى، قبل ان يباشر اللبنانيون الكرام جولة جاهلية ثانية، سوف تقع إن لم يجرِ العمل جدياً على لملمة الجراح ومعالجة كل الاسباب والتوافق على نزع كل الفتائل والقيام بكل ما يلزم لتطمين المواطنين والفرقاء، بعضهم لبعضهم الآخر، بأن العنف الداخلي محرّم وممجوج وخطير ومستهتر بكرامات الناس وحقوقهم وأمنهم ومستقبلهم.

في الجولة الاولى، مُنينا، نحن مؤيدي مقاومة اسرائيل بكافة الوسائل ومن المحيط الى الخليج، بخسارة فادحة قد لا يمكن تعويضها في المستقبل القريب.

بكل بساطة.. لقد خسرنا المقاومة.

وهل خسرنا المقاومة بسبب خطأ تاريخي وقعت هي فيه، عبر استعمالها لسلاحها في الداخل اللبناني بدلاً من توجيهه نحو العدو الاسرائيلي، أَم خسرناها بسبب قرار اتُخذ من قبل القائمين عليها بأن نخسرها؟

لم نتعوّد في لبنان ان تخطو المقاومة خطوة غير مدروسة بالكامل، وهذا الاعتبار يوصلنا الى استنتاج بأن قراراً «تاريخيا» قد اتخذته المقاومة بأن تلغي نفسها كمقاومة وبأن تؤسس نفسها من جديد كحزب سياسي لبناني يشبه القوى الاخرى، وخاصة تلك التي كانت تتقاتل خلال الحرب الاهلية السابقة.

ولماذا فعلت المقاومة بنفسها وبنا ما فعلته؟

قد تكون الاسباب كما يلي:

ــ صفقة كبيرة في المنطقة عُقدت، ومن بنودها الغاء مقاومة اسرائيل في جنوب لبنان.

– لا يستطيع احد ان يلغي المقاومة في لبنان، لا بالقوة ولا بالحوار، لذلك لا يمكن فعل ذلك الا اذا قررت المقاومة نفسها ان تلغي ذاتها.

– لا يمكن ان تلغي المقاومة ذاتها الاّ اذا جرى أمران: ان تدير سلاحها الى الداخل اللبناني لتصبح شبيهة بأي ميليشيا خاضت الحرب الاهلية السابقة، وان تستعدي الحضن الشعبي الذي من شأنه دعمها ومؤازرتها وتغطيتها والدفاع عنها قبل وأثناء وبعد اي مواجهة مع العدو.

ــ وعندما تقوم المقاومة بهذين الامرين يصبح صعباً جداً ان تمارس عملها كما كانت العادة، ويصبح اي عمل مقاوم عبارة عن «انتحار» بعدما كان استشهاداً افتخر به كل اللبنانيين والعرب والمسلمين بشكل كاسح وماسح.

– لكن لكل عملة وجهين، فمن جهة تلغي المقاومة نفسها، مع الاسف والحزن الى حدود التفجّع، ومن جهة اخرى تفرض سيطرتها وسلطتها، كتعويض لها، على مساحات ومفاصل ومواقع قرار كثيرة في لبنان، مما يجعلها عملياً شبيهة بمعظم السلطات العربية التي قد تختزن العداء لاسرائيل (وقد لا تختزنه) لكنها في المقابل تعترف بعدم قدرتها على اطلاق اي رصاصة واحدة باتجاه العدو، لأسباب موضوعية ولوجستية وسلطوية وعلى علاقة بالدولة وأمنها واقتصادها ومصيرها، ومن هنا علينا ان نسمع منذ الآن مقولات مثل «لن يجرّنا العدو الى معركة غير متكافئة ولن نسمح له ان يختار مكانها وزمانها بل نحن من سيفعل ذلك».

فأهمية المقاومة كانت بانها مقاومة، وأهمية الدولة بأنها دولة، وأهمية المعركة كانت عبر تبادل أدوار بين منطقي المقاومة والدولة، فعندما تصبح المقاومة دولة (او مسيطرة عملياً على الدولة) يختلط المنطقان وتكون النتيجة المعروفة سلفاً، وهي حصول خسارة كبيرة سوف تكون آثارها كارثية، ألا وهي خسارة اللبنانيين للمقاومة نفسها عبر اقدامها عن سابق تصور وتصميم على الانتحار.

نعم، لقد خسرنا.. خسرنا المقاومة.

وكبّدتنا المقاومة نفسها هذه الخسارة، لكن الادهى هو في ان خسارتنا قد لا تتوقف عند هذا الحدّ، فنحن مرشحون لخسارة الوطن ايضاً، والذي، بسبب الاسلوب والتوقيت قد ذهب مع الحركة الاخيرة التي حصلت الى مستوى عالٍ من الاحتقان الذي ينذر بعواقب وخيمة، قد لا يكون «حزب الله» قد تنبّه الى مخاطرها.

واذا لم يكن عالماً بهذه العواقب الهستيرية فهي مصيبة، واذا كان عالماً ومع ذلك قام بهذا العمل الانتحاري الجماعي، فالمصيبة أعظم.

أيها «الحزب» المقاوم، لماذا تركتنا.. لماذا هذا الرحيل المفاجىء، لماذا أَلغيت نفسك.. وهل كنا، نحن محبّيك، حريصين عليك اكثر من حرصك أنت على نفسك وعلى تاريخ طويل من التضحيات؟

أيها «الحزب»، لقد خسرت نفسك، لتربح تسلّطاً على دولة أصبحت «مفخخة» بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

أيها اللبنانيون.. لقد فقدتم عزيزاً، فأعلنوا الحداد، وإنا لله وإنا اليه راجعون.

15/5/2008

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.