رمضان العيد في طرابلس
كل العبادات والفرائض لها آثارها المحدودة والمتفاوتة على المرء أو المجتمع إلاّ فريضة الصوم فإنها عبادة يتفاعل معها كل أفراد المجتمع، بما يمكن أن نسميه انقلاباً سلمياً محبباً يترقبه الطرابلسيون بلهفة ورغبة، ينصاعون لبلاغاته صاغرين مطمئنين إلى ما يحدثه من تداعيات محببة إلى النفوس وعلى الأصعدة كافة.
فإذا كان من مقاصد الصلاة النهي عن الفحشاء والمنكر، والتئام أبناء الحي جماعة في المسجد في الصلوات الخمس، والتقاؤهم الحميم ظهر كل يوم جمعة.
وإذا كانت فريضة الزكاة تعزز العلاقة بين شرائح المجتمع، وتزيد من أواصر الألفة وتحد من الأزمات الاجتماعية، بل وحتى الأمنية، وتُسهم في تعزيز الحركة الاقتصادية.
وإذ تهتم فريضة الحج بتجديد حياة المسلم وفتح صفحة جديدة في السلوك والمعاملة والمفاهيم، فضلاً عن التواصل مع إخوانه من أنحاء العالم.
فإن فريضة الصوم تشمل معظم هذه المقاصد إضافة إلى مميزات خاصة بها، تعم سائر مناحي الحياة الفردية والأسرية والمجتمعية، بل والأمة بأسرها.
وليس شهر رمضان المبارك مجرد صوم لثلاثين يوماً فحسب، وإنما هو حالة جديدة بكل مستوياتها طوال 24 ساعة في اليوم.
ولعل مدينة طرابلس إحدى أبرز المدن العربية والإسلامية التي تعيش رمضان في نقلة نوعية تتجدد معالمها عاماً إثر عام، مع الحفظ على الموروثات والاستمساك بمقوماتها، والتشبث بمقاصد هذا الشهر العظيم.
وإن كل من ارتاد طرابلس خلال شهر رمضان يدرك مدى ترحيب الفيحاء بالوافد اللطيف، واحتضانه، وإكرام وفادته بكل متعة وانشراح.
إنه لحدث عظيم يترقبه الطرابلسيون بعد غيابه أحد عشر شهراً وقلماً، إن لم نقل إنه من المستحيل، ان ينجح أي انقلاب أو نظام جديد، مهما كانت مميزاته في أن يلقى القبول الحسن كما يفعله رمضان.
وإن جولة مع هذه الصور الرمضانية التي يلتقطها كل من تفيأ ظلال هذا الشهر في طرابلس، تؤكد مدى تأثيره على حياة المدينة أفراداً وأسراً ومناخاً عاماً، لن تخبو حرارته مهما تطفلت «الحضارة» ومغريات «العولمة» وتآمرت على اقتلاعنا من جذورنا.
الاستعداد لاستقبال رمضان منذ دخول شعبان
يستشعر الطرابلسيون نسائم رمضان ولطائف إرهاصاته قبل نحو شهر من قدومه، وخصوصاً مع أجواء الاحتفالات بليلة الإسراء والمعراج حيث يشير الخطباء إلى هذا الضيف العزيز الذي سيطل بعد شهر.
ويزداد هذا الاستشراف الرمضاني مع إقبال المؤمنين على صيام يومي الإثنين والخميس من شهر شعبان، وإسراع الذين أفطروا لعذر عدة أيام من شهر رمضان الفائت لقضائها.
كما يرغب كثير من الذين يترقبون شهر الصوم بلهفة بصيام عدة أيام من شعبان، الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرُفع عملي وأنا صائم».
إن صوم عدة أيام من شهر شعبان يبث في أجواء العائلة بشائر شهر الصوم، فيتداول أفراد الأسرة فيما بينهم بعض ذكرياتهم والمشاريع التي سيحققونها في رمضان المقبل بسرعة بعد بضعة عشر يوماً ولعل ليلة النصف من شعبان هي المؤشر الأكثر تحديداً لبدء العد العكسي لإطلالة رمضان، خصوصاً ما ورد في هذه الليلة «يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاّ لمشرك أو مشاحن».
برمجة الطعام والزيارات
يحرص العديد من العائلات الطرابلسية على التداعي إلى ما يشبه الاجتماع العائلي للمداولة في ترتيب جداول يومية لطعام الإفطار ومواعيد الزيارات الدورية للأهل والأقرباء والأصدقاء.
وتتفنن الشابات في ابتكار أنواع الأطعمة التي ستُطبخ يومياً بحسب الخضار والبقول المتوافرة، علماً بأن العديد من ربات المنازل قد تهيأن لهذا الشهر بـتجميد (تفريز) أنواع من الطبخات في الثلاجة استعداداً وتأميناً لراحتهم من ارتياد السوق يومياً.
وتسجل على الجدول الشهري الذي كثيراً ما يتم خرقه، أطعمة مبتكرة مع أنواع الفواكه والحلويات، فضلاً عن ترك فسحة يوم أو يومين في الاسبوع لتناول طعام الإفطار، بناء لدعوات من الأقرباء، أو لارتياد أحد مطاعم المدينة، تغييراً للجو ولترتاح ربة المنزل من مهمة الطبخ وغسل الأواني مرة في الأسبوع على الأقل.
وكذا الأمر في برمجة مواعيد الزيارات التي تكثر في هذا الشهر الكريم وتعتبر إحدى بركاته وفضائله.
تحضير لوازم رمضان
تعمد ربة المنزل خلال الأيام العشرة الأخيرة من شعبان إلى القيام بجردة عامة على أدوات المطبخ ولوازم إعداد الطعام، الشابات تسجل متطلبات المائدة من صحون وأوعية وأكواب وأدوات غرف الأطعمة وأباريق وأغطية الطاولة وأدوات التنظيف ولباس غسيل الصحون – كل يوم الدور على فتاة – وتجديد فناجين الشاي والقهوة والركاوي، والمناشف وغيرها.
وتبدأ جولة جديدة لتفقد «المونة» وما تحتاجه من مواد أولية لشهر كامل تقريباً، ليكون في وسعها تحضير طبخة اليوم دون أن تحتاج سواء إلى اللحوم والبقول والخضراوات اليومية، فتطول قائمة المشتريات: سمن، زيت نباتي، أرز، برغل، عدس، سكر، حمص، وتشكيلة منوعة من البهارات.
ثم تجول ربة المنزل في غرف الاستقبال والجلوس والطعام لتتفقد ما تحتاجها من لوازم خاصة بها: مساند، أفرشة، أغطية كنبات…
ويرتفع صوت الأولاد مطالبين بشراء عباءات وطاقيات ونعلين (مشاية) لأنهم كبروا ويريدون الصلاة في المسجد جماعة أسوة برفاقهم ووالدهم، فيما الأخير يذكر زوجته بتحضير العباءة التي يحتفظ بها لمثل هذا الشهر.
وتتدخل الفتيات بالمطالبة بحقهن بثياب صلاة جديدة من أجل صلاة التراويح، وتتنحنح الجدة تؤكد حضورها وطلبها الوحيد: مصحف بأحرف كبيرة.
وتطول القائمة ورب الأسرة يبتسم: رمضان كريم، أهلاً به، اللهم بلغنا رمضان بخير وسلامة.
وتشهد الأسواق قبيل أيام من إطلالته ازدحاماً ملحوظاً من أجل شراء هذه اللوازم، فالضيف المقبل كبير القدر والمكانة في قلوب الطرابلسيين وينبغي أن نُعد له أفضل ما يستحق لاستقباله.
ولعل أبرز مظاهر الاحتفاء بقدوم هذا الضيف المحبب قيام ربة المنزل مع بناتها ومن تتطوع من القريبات والجارات بحفلة »تعزيل« البيت بدءاً من غسل البرادي وطلاء بعض الغرف وشطف كل جدرانه وزواياه وتجميع ما لا يلزم لتوزيعه أو إلقائه في مكب النفايات.
سيرة رمضان
أكثر ما يحرص عليه أهالي طرابلس قبيل قدوم شهر رمضان هو «سيران رمضان»، أي القيام بنزهات خلوية في الهواء الطلق وقضاء يوم كامل في البساتين والمناطق المجاورة يصطحبون اللحوم وأدوات اللهو المباح، ويقيمون جلسات سمر وحبور، بمثابة وداع لأيام الإفطار واستعداداً لشهر مختلف.
وسُميت هذه العادة «سيران» لأنها كانت فيما مضى تعتمد على النزهات سيراً على الأقدام، باتجاه بساتين القبة والفوار ومطل الشرفة في أبي سمراء ومجدليا، أو باتجاه «بركة البداوي» الشهيرة بأسماكها «المقدمة»، أو برج رأس النصر، أو مقام الشيخ عفان في الميناء، أو ضواحي القلمون وغيرها من المنتزهات المجاورة لطرابلس.
ولربما تقلصت هذه العادة لتُستبدل المطاعم بالنزهات وإن ظل العديد من العائلات في المناطق تحافظ على روح «سيران رمضان» بنزهات شيّ اللحوم وقيلولة مع النارجيلة.
تحري هلال رمضان
كانت مراسم التماس هلال رمضان أحد أبرز المظاهر الأولى التي يحتفل بها الطرابلسيون حتى الأمس القريب، تحقيقاً للحديث النبوي الشريف: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته».
والتماس هلال رمضان تقليد طرابلسي متوارث، كان له منذ أوائل القرن الماضي احتفال خاص به يقيمه المسؤولون الرسميون الدينيون بُعيد غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، حيث كانت فعاليات المدينة ينتظرون في مقر والي طرابلس، ثم فيما بعد في دارة مفتي المدينة، من يفيدهم من العلماء أو الشهود العدل أنهم قد رأوا هلال رمضان.
وكان هناك نفر معينون من أبناء المدينة، من العلماء خاصة، يتطوعون لالتماس الهلال من تلة مشرفة بجوار القلعة تسمى «الزعبية»، وبعضهم يحمل المناظير لأن المنطقة هناك مكشوفة على البحر.
ويعتري الطرابلسيين في تلكم الأثناء قلق محبب، وترقب بشغف، لمعرفة موعد بدء الصيام، هل هو في الغد أم يكملون عدة شعبان ثلاثين يوماً؟
ويستمر المراقبون على التلة بتقصي ولادة الهلال الذي لن يظهر إلاّ لدقائق قبل أن يختفي في الأفق، وما ان يتم إثبات رؤية الهلال حتى يتم إعلام مدفعجي القلعة ليطلق مدافعه السبعة، وعندها تسمع الزغردات ومفرقعات الأطفال وتبادل التهاني في الأسواق ومن الشرفات، وتخرج نوبات الطرق الصوفية تجوب أحياء وأزقة المدينة مهللة مكبرة خلف المشاعل والفوانيس حتى ساعة متأخرة من الليل.
وقد استمر هذا التقيد في صورته العامة بالإضافة إلى مظاهر احتفالية أخرى تسبق مقدم هذا الشهر الكريم، ومنها توزيع شراب الليمونادة التي كانت تُملأ بها بركة الملاحة، أو بركة الصاغة مجاناً لكل العابرين.
واليوم تتم معرفة بدء الشهر من بيان يذيعه المفتي من منزله الذي يلتقي فيه علماء المدينة وفعالياتها للتبريك بهذا الشهر الفضيل.
فنون الإمساكية
أبرز «القرائن» المادية لإطلالة شهر رمضان خلال أيام توزيع الإمساكية، التي تتنافس الجمعيات الدينية والخيرية على إخراجها وتزيينها وابتكار أشكال جديدة لتجذب الصائمين على اقتنائها والاحتفاظ بها في جوار باب المطبخ، لتطلع عليها ربة المنزلة، وكذا الأولاد من حين لآخر وخصوصاً قبيل الغروب لمعرفة كم بقي لديها من الوقت لإنجاز الطعام في موعده، فيما يعمد أحد الصبية لشطب يوم صاموه.
ويندفع العديد من أبناء المدينة لإعداد إمساكيات، بعضها دعاية لمؤسساتهم التجارية، وبعضها الآخر عن روح من فقدوه.
ولا تزال المنافسة بين عدد من الجمعيات الخيرية والإسلامية وبخاصة بين محلات الحلويات التي تُعنى بجمال الإطار وطبع أشكال متعددة منها: للحائط والمكتب والجيب.
ويستقي أصحاب المطابع مسبقاً مواعيد الإمساك والإفطار والصلوات من دائرة الأوقاف الإسلامية التي تحرص كذلك على إصدار إمساكية خاصة ومميزة.
وكثيراً ما يتم توزيع هذه الإمساكيات بعد آخر صلاة جمعة في شعبان، ولدى العديد من أبناء المدينة هواية اقتناء إمساكية تصدر، وهم يحتفظون بإمساكيات قديمة للذكرى وللمقارنة بين مواقيت الصيف والشتاء.
مدفع رمضان
هو أبرز علامات رمضان الفارقة في طرابلس، إنه المدفع الوحيد الذي يطرب الطرابلسيون لدويه، ويأنسون لسماعه، ويتفاءلون بأنه وحده المسيطر على الساحة ولا مدفع آخر ينافسه.
ينتظره الصغار بلهفة قبيل أذان المغرب فيقفون على الشرفات المطلة على قلعة طرابلس من القبة وأبي سمراء يراقبون «المدفعجي» في مهمته، لا يرتعد منه الأولاد، ولا ينال حظه من الشتائم أو دعوات العجائز.
ومدفع القلعة تقليد ابتكره المماليك، وسار عليه العثمانيون، وظل حتى الأمس القريب يعمل بالبارود يشعله «الطوبجي» بعد أن يتلقى الإشارة من العلم المرفوع على مئذنة «الجامع المنصوري الكبير»، أثناء أذان المغرب، أو من الأنوار المضاءة التي ستُطفأ بعد الفجر، وكثيراً ما كان يعاود إشعال مدفعه أثناء هطول المطر، فيما الصائمون ينتظرون الفرج، وبعضهم – وبخاصة الأولاد – كانوا يرفضون الإفطار رغم سماعهم أذان المغرب. فللمدفع وقع أجمل في النفوس. وقد حدث أكثر من مرة أن تعطل المدفع لعدة أيام فخيمت الكآبة في النفوس ولم تعد البهجة إليها إلاّ بعد ان تم إصلاحه وعاد صوته المحبب يصدح في سماء طرابلس.
وقد أحيل المدفع البارودي العثماني الضخم إلى التقاعد منذ نصف قرن تقريباً، وركن على نافذة فوق مدخل القلعة، وأحيل المدفعجي في حينه إلى التقاعد أيضاً بعد أن نال حظه من الصمم.
وقد تنوعت مدافع رمضان فيما بعد وتبدلت حسب الجهات التي كانت تسيطر على قلعة طرابلس. ويتم إطلاق حوالي 200 قذيفة خلبية خلال شهر رمضان وأيام العيد: خمسة مدافع يومياً، اثنان عند كل من الإفطار والإمساك، وواحد عند إعلان بدء السحور، وسبعة مدافع في حال ثبوت هلالي رمضان وشوال ومدفعان أثناء صلوات العيد.
المسحر
هو الذي يتولى مهمة إيقاظ النائمين لتناول طعام السحور، وهو الرمز الثاني المحبب إلى نفوس الصائمين بعد مدفع الإفطار، ورغم تضاؤل دوره بسبب استمرار سهر الناس إلى ساعة متأخرة من الليل حيث يتناولون ما تيسر من طعام السحور قبل موعده، إلاّ أن له رونقه المميز دائماً، وخصوصاً في الأحياء الشعبية، وكل من يمتثل للحديث النبوي الشريف »تسحروا فإن السحور بركة«.
وكان للمسحر منذ عدة عقود »طنّة ورنّة«، وكان يتولى المهمة المتوارثة أحد عقلاء الحي وممن له معرفة وطيدة بسكان المنطقة التي يطوف فيها بطبلته مترنماً بما تيسر من المدائح النبوية وفضائل شهر الصوم أو بمقتطفات من السيرة النبوية، ويتوقف لحظات ينادي أصحاب الدار بأسمائهم مردفاً »قم يا نايم وحّد الله«.
وكان على المسحر أن يُبكر في مهمته حتى يتسنى للأهالي أن يطبخوا طعام السحور، إذ إن كثيراً من الذين يقومون بأعمال شاقة نهاراً لا يقوون على متابعة الصيام إلاّ بطبخة أرز أو برغل، ولا يقيم أودهم الأجبان والنواشف.
ومهمة التسحير كانت منوطة بعدة عائلات هي: الزاهد، الغندور، اللوزي، القدوسي، البيروتي، وغيرها، ويتوزعون على مناطق بعينها في المدينة ولا يتعدون حدود مناطق غيرهم وإلا حدثت مشاجرات فيما بينهم.
وكانت أناشيد المسحرين تعتمد قصائد أحمد شوقي أو المدائح النبوية الشهيرة، ولكن الجيل الجديد من المسحرين، ومعظمهم من الشباب، يبتكر مقطوعات خاصة ترافق تجواله مع طبله المدوي.
مائدة الإفطار
أبرز ما يحسه الصائم من تغير في هذا الشهر هو تنوع طعامه وشرابه وإضافة ألوان جديدة فضلاً عن الحلويات التي تشتهر بها عاصمة الشمال. ومن مميزات هذا الشهر الكريم انتظام الحياة الأسرية بشكل لا تعهده من قبل، إذ يجتمع أفراد الأسرة كلها على مائدتي الإفطار والسحور، وقد كانوا يتناولون الطعام من قبل منفردين بحسب مواعيد وصولهم إلى المنزل والفراغ من أعمالهم، وقلما اجتمعت الأسرة على طاولة واحدة في غير شهر رمضان.
ومائدة الإفطار الرمضانية مميزة، ومنوعة وشهية، فالصائم «يستحلي» أنواعاً من المأكولات قد تخطر على باله في أثناء صومه، أو انه اشتم رائحتها تنفذ إلى أنفه من شباك الجيران، وقد يظن نفسه أنه سيلتهم كل ما سيجده أمامه على المائدة، ولكن ما ان ينطلق مدفع الإفطار ويزدرد عدة لقيمات، حتى يشعر بالشبع، وينظر بحسرة إلى الأطايب ما تزال عامرة، ومعظم الأطباق لم يمسسها أحد، فيتمنى لو أنه قد خفف من طلباته وتبذيره وإنهاك ربة المنزل باختراعاته أو بالأحرى «تفتيقاته المعدية»، فيقرر أن يتوب عن ابتكاراته نهار الغد ويصدق المثل «كلام الليل يمحوه النهار» ليعود صاحبنا إلى إرباك أم العيال التي تقسم أنها لم تغادر المطبخ منذ الظهيرة، وتكاد تفوتها صلاة العصر وهي منهمكة في تنفيذ مشاريعه…
وربما ينفي الصائم عن نفسه تهمة البطر، ويعزو هذه الخيرات التي تمتلىء بها المائدة إلى البركة التي يضيفها رمضان باجتماع الأسرة على وجبة رئيسة، مما يمنح الشعور بأن الطعام وافر وفائض. وفي الحقيقة كثيراً ما يتبادل سكان البناية أطباق الطعام، فترى الموائد تكاد تكون متشابهة، وهذا من مميزات شهر التراحم.
مأكولات رمضانية مميزة
أمام الارتفاع الدوري لأسعار المواد الغذائية «إكراماً لشهر رمضان» فإن رب الأسرة يقف محتاراً في كفية تعديل راتبه مع رغبات معدته، وهو يرى نفسه مضطراً لتزيين مائدة الإفطار ببعض أنواع المقبلات والمأكولات الخاصة بهذا الشهر، فضلاً عن الوجبة الرئيسة.
فالمائدة ستزين بحبات من التمر يتناولها الصائم سُنة قبيل أداء صلاة المغرب. اما الحساء «الشوربة» فهو صحن رئيسي حتى في عز الصيف، حيث تنفع حسوات منه لترطيب الحلق وتحضير المعدة لاستقبال الوجبة الدسمة. وأبرز الصحون المتصدرة مائدة الإفطار صحن «الفتة» يحضّر في المنزل، وهي تباع حمصاً مسلوقاً مع المرق، يضيفها الصائم إلى الخبز المفتت المحمص، ويغطيها باللبن الممزوج بالطحينة والحامض والثوم، ويجب أن يكون تحضير هذا الصحن قبيل دقائق من موعد الإفطار ليبقى ساخناً بعد أن يُسكب السمن المغلي فوقه فيما الأولاد يترقبون صوت «الطشة» مغتبطين بعد أن يضع معه الصنوبر والمكسرات المحمصة.
ومن الصحون الرمضانية الأخر التي تنافس لتزيين مائدة الإفطار جاط التبولة أو الفتوش بالتناوب فيما بينهما، أو الاثنان معاً، وهو صحن مرهق لربة المنزل، لذا يشارك معظم أفراد العائلة في صنعه بفرم البصل الأخضر والفليفلة الحلوة والبندورة والفجل والخيار والخس والنعناع والبقدونس لتفرك جميعها مع الخبز المحمص (فتوش) ومع البرغل (تبولة) يضاف إليها الملح والزيت ودبس الرمان حسب الطلب، وهذا الصحن مليء بمختلف أنواع الفيتامينات وهو ضروري جداً للصائم.
ولا يغيب عن مائدة الإفطار صحن الكبة النيئة، والحمص والمغربية والمتبل بالطحينة والبطاطا المقلية، فضلاً عن أصناف مقبلات أخرى يطالب بها الصائمون، والفتيات منهم بخاصة وهي أنواع المكابيس والمخللات التي تنتشر على بسطات الأسواق الشعبية كالخيار والفليفلة والباذنجان والقرنبيط والجزر وغيرها.
مشروبات رمضانية
ليس للمأكولات فقط تقاليدها الخاصة في هذا الشهر، بل إن للمشروبات اهتماماً مميزاً يوليها الصائم عنايته، ولا سيما مناظرها المغرية على البسطات المنتشرة في الساحات وزواريب الشوارع والأحياء.
ويزدهر سوق المشروبات الرمضانية صيفاً، رغم ان الطرابلسي لا يتخلى عنها حتى في عز الشتاء، وهي شراب التوت، والخرنوب، والسوس، والتمر هندي، والليمونادة، والجلاب، والأفندي، وعصير الليمون، والجزر، والتفاح.
أما الشراب المميز الوحيد كعلامة فارقة رمضانية فهو شراب قمرالدين، وهو عبارة عن شرائح من المشمش المجفف يُنقع في الماء الفاتر ليذوب بسرعة ويصبح شراباً سائغاً يروي العطش عند الإفطار، ويساعد الصائم عندما يتناوله على السحور لتحمل مشاق الصوم في يوم حار، ويقي الجسم من الإنهاك لغناه بالحديد والكالسيوم وفيتامينات أخرى.
حلويات رمضانية
مهما ارتفعت أسعار الحلويات بصورة دورية مع مطلع كل رمضان، إلاّ أن رب الأسرة لا يبخل على عائلته بصحن حلو بعد العشاء، أو ترحيباً بضيوف السهرة.
ومن حلويات طرابلس الرمضانية «ورد الشام» و«الكربوج» و«البصمة» ولا تزال حلاوة الجبن وزنود الست في مركزيهما يحافظان عليه، مع ابتكار أنواع جديدة من الحلويات مثل المعمول بالقشطة، مع احتفاظ صحن الكنافة بمقامه. أما القطايف بالقشطة فإن سعرها المعقول يدفع محدود الدخل إلى شرائها، ويبقى صحن المهلبية، والرز بحليب الحلوى الأكثر شعبية، بعد أن كانت أقراص البرازق وأصوات باعتها هي السائدة في أسواق طرابلس منذ عدة عقود.
ويجتهد كثير من أرباب الأمر في صناعة الحلويات المنزلية حيث يمارسون هوايتهم أمام الجيران والأهل والأصحاب في تحضير صدور البصمة والكنافة وزنود الست، وعجائنها متوافرة في السوق، ويحتاج صنعها إلى دقة في المكاييل، وهدوء في الأعصاب، ودوام مراقبتها على النار.
تبادل الزيارات
أجمل فضائل هذا الشهر الكريم التقاء أفراد الأسرة – كما رأينا – على مأدبة مشتركة، وسهرة جماعية داخل المنزل، أو لدى الأقرباء والأصدقاء…
وتنتظم الزيارات الدورية المتبادلة بدءاً من أوائل شهر رمضان، حيث تلتقي العائلات جميعها في منزل الجد للتهنئة بقدوم الشهر، أو في دارة الأخ الأكبر بديلاً من الأب حيث يحتشد الأبناء والأحفاد، ربما لأول مرة منذ عام يتعارفون ويعززون الروابط العائلية، ويستفسرون عن أحوالهم وقضاياهم ويتناجون الهموم بحثاً عن الحل لها فيتشاركون في استيعابها وإقالة عثرة الملهوف أو تحقيق الصلح والوئام إن وجد الخصام.
ثم يتواعدون لزيارات دورية بين الإخوة والأبناء والأصهرة مما يزيد في الألفة ويحقق مغزى الحديث النبوي في أنه لا يحق لأحد ان يهجر أخاه فوق ثلاث.
وكثيراً ما تكون هذه السهرات والزيارات المتبادلة مناسبة لاختيار عروس استحلتها إحداهن لابنها.
التوقيت الرمضاني
أي حسر لهذا الشهر الذي تنقلب فيه أوضاع الطرابلسيين طواعية، توافقاً مع متطلبات هذا الشهر على مختلف الأصعدة؟
ومما يلاحظ أنه بعد مرور عدة أيام من شهر الصوم ينسى الناس التاريخ الميلادي المعمول به، ويحددون مواعيدهم بأيام رمضان وقلما يتذكر المرء أنه ليوم في 15 آب مثلاً ولكن يسارع إلى القول أنه في 5 رمضان، مثلما اعتادوا عل اعتبار مواقيت الصلوات الخمس منطلقاً لتحديد أي موعد يضرب، كأن يقال مثلاً بعد صلاة العصر، وليس الساعة الرابعة مثلاً، وكذا الأمر في مواعيد تقبل التعازي.
ويظل التوقيت الرمضاني معمولاً به طوال الشهر الكريم حيث يكاد الصائم ينسى في أي شهر ميلادي هو وليس فقط أي يوم منه وحسب.
إنه سحر رمضان وجاذبيته الخاصة به.
الأخلاق الرمضانية
يتمسك الطرابلسيون خلال شهر رمضان بأهداب الأخلاق والآداب الإسلامية امتثالاً للأحاديث النبوية الشريفة الآمرة بغض البصر، الامتناع عن الغيبة والنميمة وقول الزور، والتحرز من الغضب والمشاكسة وان يتمسك أحدنا بقول «إني صائم» لمن خاصمه وجادله وشتمه، وعدم قول البذيء من الكلام.
ولا يعني هذا الحرص الشديد على التمسك بآداب رمضان أنهم على خلاف ذلك في سائر شهور السنة، وإنما هو زيادة في تربية النفس، حيث إن الصوم ليس فقط الامتناع عن الطعام والشراب، وهذا صوم الخواص، أما صوم خواص الخواص، أي تنزيه الفكر عن كل ما يلهي عن ذكر فهو غاية الصائمين المتورعين الأصفياء كما يقول الإمام الغزالي.
وتتبدى أخلاق الصائم الطرابلسي في حالة الغضب رافضاً الرد على الإساءة بمثلها، وبالحرص على السكينة والهدوء في الكلام والمسير، واستمرار الابتسامة التي تشبع الحبور والتفاؤل في نفوس من يلقاه.
كما أن هذه الأخلاق الحميدة تظهر بصورة جلية في البيع والشراء ومعاملة الزبائن، وفي الدوائر المختلفة ما عدا نفراً ضئيلاً ممن يفسدون صومهم بالانفعال والغضب وقولة الفاحش من الكلام، وهؤلاء يتضاءلون تدريجياً.
ويلحظ أفراد الأسرة ان والدهم أصبح أكثر هدوءاً في رمضان، رغم أنه كان كثير الانفعال من قبل…
صلاة التراويح
تعمر بيوت الله بشكل ملحوظ خلال هذا الشهر بأعداد متزايدة من المصلين، ولاسيما الشباب والأولاد من الجنسين حيث تضيق المساجد بالمصلين الذين يفترشون بالحصر والسجاجيد الشارع المجاور وخصوصاً في صلاة الجمعة.
وترحب جوامع المدينة بالمهرولين إلى صلاة الفجر، وقد اكتظت بهم الباحات في صلاة التراويح حيث تشهد الشوارع حركة نشطة للقادمين من منازلهم شيباً وشباباً لأداء صلاة العشاء.
ويزهو الشباب بعباءاتهم، وترفل الشابات بأثواب الصلاة يتدافعن لاعتلاء سدة المسجد وأداء صلاتي العشاء والتراويح.
وترى أحياء المدينة وأزقتها عامرة ليلاً بالعائدين من المساجد منهم من أدى صلاة التراويح ثماني ركعات، وبعضهم يحرص على عشرين ركعة، وكذا المشهد نفسه مع صلاة الفجر.
احترام النصارى لمشاعر الصائمين
ومما يُشهد لنصارى هذه المدينة الطيبة ورقي مشاعرهم ونبل أحاسيهم فور قدوم شهر رمضان، حيث تقوم فاعلياتهم ورجال الدين بزيارات تهنئة للمراجع الإسلامية، الدينية والسياسية والاجتماعية والبلدية للتبريك بهذا الشهر الفضيل.
وهم يحرصون على احترام مشاعر الصائمين فيمتنعون عن التدخين جهاراً، أو تناول الطعام علانية، ولا يستقبلون الزبائن في مطاعمهم، أو يحجبون الرؤية بستائر، وهذا دأبهم طوال شهر رمضان فقط في مدينة طرابلس دون سائر المدن والمناطق اللبنانية مما يعزز هذه العلاقة الوطيدة بين أبناء المدينة على اختلاف طوائفهم.
وتزدحم دار الفتوى في طرابلس والشمال بالمهنئين من رجال الدين ومن الفاعليات المختلفة من سائر طوائف المدينة، ويحرص مطران الطائفة المارونية في المدينة جورج بو جودة على إقامة مأدبة إفطار تكريمية لمفتي طرابلس والشمال الدكتور الشيخ مالك الشعار في حضور حشد من القضاة والعلماء والشخصيات الطرابلسية، وتُخصص لهم غرفة خاصة لصلاة المغرب.
إنها طرابلس العيش المشترك والسماحة والملتزمة بحقيقة هذا الدين وعياً ورُقياً وانفتاحاً ووسطية، ولن يستطيع مغرض أو جاهل أو متحجر حرفها عن رؤيتها ومفاهيمها.
أهازيج الأطفال
ويطاول الانقلاب الرمضاني اللباس وأنواع الألعاب التي يمارسها الأطفال والأولاد، فضلاً عن «اللغة الرمضانية» التي تعم بين الناس طوال هذا الشهر، ويتم تداول مفردات وعبارات وأناشيد وأمثال خاصة.
ويدأب الأطفال على التنافس فيما بينهم حول عدد الأيام التي صاموها ومقدار صومهم دون أن يفطروا، ويتبارون في إظهار صحة صيامهم من خلال تفحص ألسنة بعضهم، ويحرصون عل اقتناء ليمونة أو تفاحة مشكوكة بحبات القرنفل يشمونها من حين لآخر للدلالة على صومهم.
ويردد الأطفال في ألعابهم أهازيج شعبية تندد بالمفطر وتشيد بالصائم مثل: يا فاطر يا هم – يا بزاق الدم – دمك دم الخنزير – يللي معلق بالجنزير.
أو مثل: يا فاطر رمضان – يا مقلل دينو – سكين اللحام – تقطع مصارينو.
ومع اقتراب العيد يردد الأطفال أغاني خاصة تضفي أجواء من البهجة، مثل: بكرة العيد ومنعيّد – وندبح بقرة السيد – والسيد مالو بقرة – مندبح البقرة الشقرا.
المآدب الرمضانية
تزدهر في طرابلس منذ أوائل شهر رمضان ظاهرة مآدب الإفطار التي تدعو إليها الجمعيات والمؤسسات الخيرية والدينية والإنسانية والصحية والتربوية في مطاعم طرابلس والميناء والقلمون، حيث يلي هذه المآدب كلمات من رؤساء هذه المؤسسات تعرض لمهماتها وإنجازاتها ومشاريعها المستقبلية في حضور فاعليات المدينة السياسية والدينية والنيابة والاقتصادية كما توزع كتيبات تعرض كشف حساب هذه المؤسسات عن تقديماتها طوال العام.
ويحرص المتبرع على دعم المؤسسات النشطة كي تستمر في إعانة المحتاجين، وكثيراً ما يصادف إقامة عدة مآدب إفطار في وقت واحد.
وقلما تقام مأدبة إفطار لا تُجمع فيها التبرعات، وإن تلبية دعوات كل هذه المآدب يكون متعذراً أحياناً، لذا يكتفي بعض المدعوين بإرسال تبرعاتهم أو بعض زكاة أموالهم مسبقاً إلى المؤسسة الداعية.
دعوة إلى الإفطار
هناك عادة أخرى لا يتخلى عنها الطرابلسيون في شهر رمضان، وهي الدعوات المتبادلة لتناول طعام الإفطار، إذ كثيراً ما يعرب رب الأسرة عن قلقه وغصّته لأنه لا يوجد على مائدته قريب أو جار أو ضيف يشاركه زاده، يحدوه إلى ذلك الحديث النبوي الشريف عن أجر من فطر صائماً في رمضان.
ويروي المخضرمون أن المار في أحياء طرابلس بُعيد العصر كثيراً ما كان يصادف رجالاً يقفون على أبواب منازلهم أو زوايا زقاقهم وحيّهم يتلفتون يمنة ويسرة علّهم يصادفون وافداً عزيزاً إلى مائدتهم.
إنها عادة متأصلة لما تنقرض بعد من الفيحاء، وهي تنم عن طيب الوفادة، وكرم الضيافة، ولطف المعشر، وحب الآخرين.
السكبة
إذا كان للفاعليات الطرابلسية: السياسية والدينية والنيابية مآدبهم الرمضانية المتلفزة، فإن لسكان الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية من طرابلس «مآدبهم» المتواضعة، وعاداتهم المتوارثة عن الآباء والأجداد، ومن أبرزها عادة «السكبة».
و«السكبة» توزيع جزء من الطعام أو معظمه عل الجيران والأقارب والفقراء خاصة، فترى فتيان الحي يحملون أطباق الطعام قبيل المغرب يطوفون بها على عدد من أهالي الحي تقرباً، وتمتيناً للأواصر، أو عن روح المرحوم. وربما لإحدى الجارات الحوامل التي أطلت من نافذة دارتها فاشتمت رائحة طبخ الجيران، فاستحلت، ومن الضروري تنفيذ رغبة «الوحام».
والصحن لا يعود فارغاً في اليوم التالي بالطبع، وهكذا تتزين موائد الإفطار في الحي الواحد بالمأكولات نفسها أحياناً، وتفعل هذه العادة الرمضانية الطيبة فعلها في النفوس، وخاصة لما للطعام من تأثير في زيادة الألفة والتواصل.
المطاعم المجانية
لا يزال المخضرمون من أبناء طرابلس يذكرون، نقلاً عن آبائهم وأجدادهم، حكاية ذلك المطعم المجاني الذي أوعز بإنشائه السلطان عبدالحميد في محلة «باب الحديد» وأوقف له ألف غرش ذهبي شهرياً لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وقد توقف هذا المطعم المجاني عن النشاط منذ عدة عقود.
ولكن عاد المطعم، أو بالأحرى المطاعم الرمضانية المجانية من جديد عبر بيت الزكاة والخيرات منذ ربع قرن تقريباً ليقدم الوجبات الساخنة لآلاف العائلات المتعففة في منازلها فضلاً عن المواد التموينية ومآدب يومية في مقره للمساكين وعابري السبيل.
وتميزت طرابلس والمناطق المجاورة بموائد العزم التي أطلقها الرئيس نجيب ميقاتي منذ سنوات في حوالي 20 مركزاً يقدم فيها وجبات الإفطار الشهية لآلاف المحتاجين، إضافة إلى وجبة السحور، وهي مبادرة أسهمت في تخفيف حدة المعاناة والأزمات الاجتماعية لدى شريحة واسعة من الطرابلسيين وأبناء المناطق المجاورة.
كما تعمد عدة مؤسسات لتوزيع آلاف الصناديق من المواد التموينية على منازل المحتاجين نذكر في مقدمتها مؤسسة الحريري ومؤسسة الصفدي.
أسواق رمضان
يحلو للطرابلسيين التجوال بعد صلاة العصر في أسواق المدينة الشعبية، ويعمد الكثير من أرباب الأسر الذين كانوا يقطنون في الأحياء القديمة مع آبائهم وأجدادهم، ثم انتقلوا إلى أحياء المدينة الجديدة، إلى اصطحاب أولادهم ليزوروا مسقط رأسهم ويطلعوا أبناءهم على مرتع طفولتهم، ويعرفوهم على أسواق البركة، ويتزودوا منها ببعض المأكولات والمشروبات ذات الأسعار المقبولة بالمقارنة مع المناطق الأخرى.
ولا تزال هذه الأسواق حافلة بالمظاهر التي تدعو الصائمين إلى تذكيرهم الدائم بهذا الانقلاب الذي أحدثه رمضان في العديد من مظاهر الحياة اليومية.
ومن أبرز تلكم الأسواق التي يتردد إليها الطرابلسيون والزائرون: سوق العطارين وصولاً إلى بركة الملاحة، وسوق حراج وسوق القمح حيث يعرض البائعون مأكولاتهم الرمضانية ويزدحم السوق بالمارة والفضوليين والمتسوقين الذين يهيئون طبخة اليوم.
وتنتشر على جوانب الأسواق والشوارع والساحات بسطات المغربية والمخللات وأنواع المرطبات التي تغري الصائمين بشرائها. كما يلفت الانتباه الخبز الرمضاني المزين بالحبة السوداء.
إن متعة الصائمين تتجلى في استعادة الأجواء التي عاشها الآباء والأجداد في هذه الأحياء والأسواق، مع أصوات الباعة وروائح البهارات والحركة التي تبعث على التفاؤل والغبطة.
سهرات رمضان
كانت السهرات الرمضانية – قبيل اقتحام التلفزيون حياتنا الأسرية – تجري في المقاهي الشعبية وفي اللهو المباح وخصوصاً بعد قضاء صلاة التراويح حيث يؤثر الكثير منهم الجلوس في المقاهي.
وكانت أمسياتهم حكايا سيرة عنترة والزير سالم وفيروز شاه والمهلهل، وغيرهم من أبطال القصص الشعبي، أو يتولى الشيخ محمود الكراكيزي تقديم حوارية «كراكوز وعيواظ» في لعبة خيال الظل التي نبغ فيها.
ولم تغب السهرات الشعبية من أحياء طرابلس الداخلية ولم تخفت مظاهرها على الرغم من إغراءات المسلسلات التلفزيونية «الرمضانية» حيث تنشط سهرات مقهى باب الرمل حتى السحور، ويقصد المنطقة شباب وأرباب عائلات من أنحاء طرابلس لشراء الكعكة بالجبنة من أفران المنطقة التي تعمل على الحطب.
كما تنشط مقاهي الضم والفرز، بولفار عشير الداية وطريق المئتين في استقبال روادها، مع حضور خاص بهذا الشهر للخيام الرمضانية التي تلتقي فيها العائلات من حين لآخر.
احتفالات ومحاضرات وأمسيات إنشاد
يعتبر شهر رمضان المبارك في طرابلس مناسبة لبرمجة نشاطات منوعة توائم هذا الشهر الكريم، وتعمد العديد من المؤسسات والجعيات الإسلامية إلى إعداد برامج دينية وثقافية وترويحية تواكب مجمل أيام هذا الشهر.
وأبرز هذه المؤسسات: دار الفتوى في طرابلس والشمال، ودائرة الأوقاف الإسلامية، وجمعية العزم والسعادة، ومركز الصفدي الثقافي، وبلدية طرابلس، وجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، ولجنة مسجد الوفاء، والجماعة الإسلامية، وغيرها.
وتتنوع هذه النشاطات من احتفالات بذكرى غزوة بدر، وفتح مكة المكرمة، وليلة القدر، وأمسيات أناشيد دينية ومعرض الكتاب الإسلامي، ومحاضرات لعلماء من داخل لبنان وخارجه، وليالي التلاوة، وتكريم حفظة القرآن الكريم، وسهرات الفتلة المولوية، ومسيرات تكبير في الاسبوع الأخير من رمضان.
كما تحرص بعض المؤسسات كدار الفتوى في طرابلس والشمال، وجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية على توزيع كتيبات من وحي شهر الصوم.
وليس رمضان شهر العبادة والخيارات وحسب، بل أنه شهر الانقلاب الشامل في حياة الطرابلسي على المستويات كافة، وهي ميزة طرابلس وحدها.
مجالس الوعظ والدروس الدينية
يحرص الطرابلسيون على حضور مجالس التفسير وتلاوة القرآن الكريم والدروس الدينية التي تنظمها دائرة الأوقاف الإسلامية في مختلف مساجد طرابلس والميناء والشمال.
وطرابلس مدينة المائة مسجد ومصلى وزاوية ومدرسة دينية أثرية لا تزال على عهدها بهذه المجالس وخصوصاً في شهر رمضان، حيث توافد أبناء المدينة إلى أبواب المساجد يستعرضون مناهج الدروس الدينية فيتخيرون في ذاكرتهم أو يسجلون على قصاصة مواعيد عدد من العلماء الذين يهوون سماع أحاديثهم.
ومن الصائمين من يفضل مجلس التفسير، وبعضهم يرغب بالاستزادة من الفقه، ويؤثر آخرون واعظاً بعينه لبساطته وعدم تقعره في الكلام، بينما يرتاح بعضهم إلى سلاسة أسلوب ذاك المحدث، فيما يتهافت معظمهم إلى مجلس ذلك الشيخ اللبق المرح.
وسيجد الصائم مختلف أنواع الأحاديث الدينية في «الجامع المنصوري الكبير» بعد الفجر وقبيل العصر وبعده مع عشرات العلماء في مجالس يرتع فيها الصائمون مع فيض من الروحانية والخشوع.
توزيع الزكاة
رمضان شهر البر والخيرات وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود ما يكون في رمضان، وقد حرص الميسورون من أبناء طرابلس – ولا يزالون – على توقيت إخراج زكاة أموالهم في شهر رمضان، وليغتنموا هذا الشهر الكريم في زيادة عطاءاتهم وتقديماتهم إلى الفقراء والمحتاجين والمؤسسات الخيرية والرعائية والاجتماعية والصحية وغيرها.
إن الزكاة، هذه الفريضة الثالثة في الإسلام، والمقرونة في معظم الآيات مع الفريضة الثانية، إقامة الصلاة، لها موسمها المتعارف عليه في رحاب الفريضة الرابعة: صوم رمضان، حيث يكون شهر الصوم مناسبة لتوزيع زكاة المال 2.5 بالمائة، لتتعزز في هذا الشهر الفضيل مظاهر التكافل الاجتماعي.
ويستفسر المزكون من العلماء ومن أمين الفتوى في طرابلس ومن قضاة الشرع عن أنصبة الزكاة وأنواعها ومصارفها الثانية، والسؤال عن عناوين الأسر المحتاجة والمتعففة التي تستحق الزكاة.
كما يستطلعون أحوال المؤسسات الخيرية المختلفة، التي تعمد مجالس إدارتها إلى إقامة مآداب إفطار تعرض من خلالها نشاطاتها ومشاريعها توخياً لتبرعات تعينها على الاستمرار في مهماتها الخيرية والإنسانية.
ولكن، ومنذ نشوء مؤسسات لجمع الزكاة في طرابلس منذ حوالي العقود الثلاثة، فقد بادر معظم الراغبين في تأدية الزكاة إلى توكيل هذه المؤسسات مهمة إنفاقها في مصارفها الشرعية الثمانية الواردة في القرآن الكريم، حيث تتوافر لدى هذه المؤسسات مئات العناوين للأسر المحتاجة وذوي الأيتام والأرامل والمعوقين والعاجزين.
وأبرز هذه المؤسسات «بيت الزكاة والخيرات» الذي كان له فضل السبق في القيام في هذه المهمة الموكلة إليه، كما نشأت لجان صندوق الزكاة التابعة لدار الفتوى لهذا الغرض في كل من: طرابلس والمنية والضنية وعكار والقلمون، والتي تقوم بنشاطات خيرية ملحوظة.
دورات قرآنية
تغتنم بعض الجمعيات الإسلامية في المدينة هذا الشهر الكريم لتقيم دورات مجانية لتعليم القرآن الكريم، طوال فترة ما قبل الظهر لأربعة أيام في الأسبوع، ويزداد الاهتمام بهذه الدورات لوقوع شهر الصوم في فصل الصيف والعطلة المدرسية، ومعظم هذه الدورات تقام في المدارس.
إلاّ ان أكثر الدورات القرآنية روحانية ووقعاً في النفوس تلك التي تقام في المساجد وخصوصاً في «الجامع المنصوري الكبير» وغيرها من المساجد القديمة حيث يتحلقون من مختلف الأعمار بجوار أحد أعمدة المسجد ينصتون إلى أحد العلماء يبسّط شرحه لطريقة التلاوة والتجويد.
ولا نزال نذكر تلكم الزاوية المباركة التي كان يقعد للتدريس فيها خادم القرآن الكريم الشيخ محمود مملوك الشهير بـ «أبو العبد» الذي وهبه الله علم أحكام التلاوة تعلمها على عدد من مشايخ طرابلس المشاهير، فانبرى يعلمها للأولاد الذين يترقبون الفراغ من الدرس لأن جعبة، أو بالأحرى سلة أبو العبد ملأى بالهدايا من شوكولاه ومكسرات وأقلام ودفاتر – يرحمه الله – .
العمرة في رمضان
يترقب الكثير من الطرابلسيين شهر رمضان المبارك ليؤدوا فيه مناسك العمرة، ولو صادف الشهر الكريم أيام القيظ الشديد، يحدوهم إلى ذلك، الحديث النبوي الشريف عن فضائل العمرة في رمضان.
وكثيراً ما تتولى الجمعيات الطرابلسية في مقدمتها جمعية الكشاف المسلم تنظيم رحلات العمرة الرمضانية التي توخاها الطرابلسيون في العشر الأواخر من رمضان كي لا تفوتهم ليلة القدر المباركة في كنف المسجد الحرام، أو الحرم النبوي.
والعمرة الرمضانية متعة كبرى لا يعرفها إلاّ من ذاقها وقضى صومه في رحاب بيت الله الحرام طائفاً ملبياً ساعياً مصلياً فيشعر المعتمر أنه يؤدي عدة فرائض معاً.
هي بركة هذا الشهر العظيم الذي تحلو فيه العبادات، فكيف إذا كانت في الديار المقدسة.
ومن يراقب زائري مكة في إحدى المحطات الدينية يفاجأ بهذه الأعداد الهائلة من المعتمرين ما يعادل تقريباً عدد الذين يؤدون فريضة الحج.. هنيئاً لمن ذاق.
سنة الاعتكاف
لا يزال العديد من الطرابلسيين حريصين على القيام بسُنة الاعتكاف ولو لمرة واحدة من العمر في أحد مساجد طرابلس، والغالب في «الجامع المنصوري الكبير» أو «جامع طينال».
والاعتكاف، من اعتكف، أي انصرف عن الناس إلى أجواء العبادة طوال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان يقضيها المعتكف مع إخوانه في الدعاء والصلاة والتهجد والقيام وقراءة القرآن الكريم والاستماع إلى الدروس الدينية، لا يغادر المسجد إلاّ للضرورة القصوى، حيث يتم تأمين طعام الإفطار والسحور من قبل أحد أفراد عائلته أو من قبل متبرعين يتولون ذلك. وطبعاً يختلط المعتكف بالمصلين الذين يؤمون المسجد في الصلوات الخمس، ولا يغادره إلاّ بعد صلاة العيد حيث يستشعر المعتكف حلاوة تلك الأيام التي قضاها في رحاب الله، مخلصاً متطهراً متأملاً ما فرطت يداه، معاهداً على الاستقامة ما استطاع بإذن الله.
احتفال ختم القرآن
يحرص الصائم في خلال هذا الشهر على مسك «ختمية» أي قراءة كامل القرآن الكريم بمعدل جزء واحد يومياً، يقرأه إما بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، وهناك من يتعهد ختم القرآن الكريم مرتين أو ثلاثاً، ويحث أفراد عائلته على قراءة ما تيسر يومياً، مع دعوة الأولاد إلى مرافقته في التلاوة.
وهناك مجلس جماعي لختم القرآن الكريم ينعقد في غرفة الأثر الشريف في «الجامع المنصوري الكبير» يبدأ يومياً بعد صلاة العصر بإشراف شيخ قراء طرابلس، ويتناوب معه في التلاوة عدد من المواظبين على حضور هذا المجلس، ويكتفي المتحلقون بالإنصات إلى التلاوة الصحيحة ولربما طلبوا تلاوة بضع آيات توخياً لضبطها من كبار الحفظة في المجلس.
واحتفال ختم القرآن الكريم تقليد متوارث يذكر المخضرمون بداياته في القرن الماضي مع الشيخ عمر العريف والشيخ علي العرب والشيخ نصوح البارودي والشيخ صلاح الدين كبارة يرحمهم الله قبل أن يتولاها الشيخ علي كسن، ويُقرأ في المجلس جزء واحد يومياً حتى التاسع والعشرين حيث يُقرأ فيه جزءان ليُختم باحتفال مهيب يتخلله أدعية وابتهالات دينية ودموع الحسرة على انقضاء شهر الهدى والفرقان والبركات.
ختم صحيح البخاري
واحتفال رمضاني خاص تتميز به طرابلس الفيحاء ويقام بعد صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان ويجري في «جامع طينال» الأثري، حيث كان يتم الاحتفال بقراءة ختم صحيح البخاري من على سدة في صدر المسجد، وكان يتولى قراءة الختمية الشيخ الدكتور محمد أكرم الخطيب الذي حافظ على هذا التقليد الخاص بطرابلس، منذ ان عُهِد إلى آل الخطيب بقراءته منذ 700 سنة بناء على فرمان صادر عن دولة المماليك كرسه فرمانات أخرى صادرة عن الدولة العثمانية لا تزال في حوزة الشيخ الخطيب رحمه الله.
وكانت قراءة مجلدات صحيح البخاري الأربعة تبدأ من مطلع شهر رجب الخير من كل عام هجري حتى يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان وقد بدأ هذا التقليد في أوائل عهد دولة المماليك بعد أن قال عنه الإمام الحافظ الذهبي أنه أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز.
وقد عهد مفتي طرابلس والشمال الدكتور الشيخ مالك الشعار إلى الدكتور الشيخ ماجد الدرويش بقراءة ختم صحيح البخاري حالياً حيث يقام احتفال يليق بهذا الحدث في مسجد طينال.
زيارة الأثر الشريف
والأثر الشريف هو شعرة منسوبة إلى الرسول الكريم أهداها السلطان عبدالحميد الثاني إلى طرابلس تقديراً لولائها للدولة العثمانية وذلك في العام 1308 هـ، حيث وُضعت في علبة من الذهب الخالص وأرسلت مع أحد الباشوات في فرقاطة بحرية خاصة. وعندما وصلت إلى ميناء طرابلس هرع أهالي طرابلس بطوائفها كافة لاستقبالها، وهي كانت مهداة إلى «جامع التفاحي» الذي رممه السلطان عبدالحميد فسمي باسم «جامع الحميدي»، لكن رجالات المدينة قرروا أثر نصيحة من الشيخ علي الميقاتي بأن يوضع الأثر الشريف في «الجامع المنصوري الكبير» لكونه أكبر مساجد المدينة.
ومنذ ذلك الحين يحرص الطرابلسيون وأبناء المناطق الشمالية على زيارة الأثر الشريف بعد صلاة الفجر وصلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان وسط التكبير والتهليل وقرع طبول نوبات الطرق الصوفية الذين تغص بهم باحة المسجد، ويتدافع الآلاف من المؤمنين لتقبيل هذا الأثر الشريف الذي تتميز به مدينة طرابلس وتفتخر.
نوبة الوداع
تقليد رمضاني آخر يترقبه الأبناء مع جولات نوبات وداع رمضان التي تبدأ من منتصف الشهر حتى يستطيعوا إتمام الوداع لكل أهالي المنطقة التي ازداد عدد سكانها.
ومن المعلوم انه ليس للمسحر أجر على مهمته، ولكن فرق التسحير تقوم مجتمعة – كل في منطقتها – بجولات توديع الصائمين، حيث تنطلق النوبات من مقر شيخ المسحرين بعد طعام الإفطار لتزور المنازل، يتقدمها منشدون يرددون القصائد والموشحات والمدائح الدينية التي تشير إلى اقتراب أفول هذا الشهر المبارك، يرافقها حملة الفوانيس والمشاعل وجوقة من الطبول والدفوف والصنوج، فيهرع الأطفال إلى لقائها وحثها على البقاء بعض الوقت بعد طول انتظار وشوق منذ قدوم رمضان.
وبالطبع يتولى رب الأسرة نفح مسؤول النوبة ما تجود به نفسه على ما قاموا به من مهمة إيقاظ النائمين لتناول طعام السحور، وكثيراً ما يلح الأولاد على أفراد النوبة البقاء لمدة أطول يلتقطون لهم ومعهم الصور الفوتوغرافية ويشاركونهم للحظات قرع الطبول والصنوج.
ليلة القدر
لعل أكثر الاحتفالات مهابة وإجلالاً، الاحتفال بليلة القدر التي من المشتهر انها ليلة السابع والعشرين من رمضان، رغم أن عدداً من المصلين يلتمسونها في العشر الأواخر وفي الأيام المفردة، إلاّ أنه جرى العرف على أنها في مساء 26 رمضان بعد صلاة التراويح.
وتقيم معظم مساجد المدينة احتفالاتها بهذه الليلة المعظمة التي وردت فيها سورة كريمة باسمها، حيث يبدأ المصلون بالتوافد إلى المسجد أوائل الثلث الثاني من الليل يعكفون على الصلاة بعد سماع خطب وكلمات عن مآثر وفضائل هذه الليلة، ثم يقيمون صلاة التسابيح ويختمونها بأدعية حارة لأن يتقبل الله صومهم وقيامهم وصلاتهم، ويجأرون فيها بالدعاء لأن يعفو الله عنهم سائلين المولى عز وجل «العفو والعافية».
إنها ليلة نورانية يستشعر المؤمن فيها دنو فراق الشهر الحبيب فتنهمر الدموع حزناً وشوقاً إلى أن يمن الله عليهم بالحياة حتى يلقوه في العام المقبل.
أسواق العيد
وتختلط غصة الصائمين بوداع رمضان مع بهجة اقتراب عيد الفطر، وبخاصة لدى الأولاد الذين يلحون منذ منتصف شهر الصوم على الأهل لشراء ملابس العيد.
كانت أسواق طرابلس قبل نحو نصف قرن تعج بالمتسوقين منذ مطلع شهر رمضان، وذلك لأن معظم الطرابلسيين كانوا يفضلون خياطة الملابس والقمصان بدلاً من شرائها جاهزة كما هي الحال الآن. لذا كنت ترى خياطي الجوخ والقمصان يصلون الليل بالنهار منذ منتصف رمضان ليستطيعوا تأمين طلبات الزبائن، وكذلك الأمر خياطات المنازل.
من هنا كان الازدحام لشديد في سوق البازركان لشراء الأقمشة، وكذلك الأمر للتوصية على أحذية جديدة غير الجاهزة، مما أسهم في تحريك العجلة الاقتصادية في محلات صناعة الأحذية والخياطة وباعة الأقمشة.
ويزداد ازدحام الأسواق في الاسبوع الأخير من رمضان وبخاصة في محلات تجهيزات العرائس حيث يجمع معظم المخطوبين على إقامة حفل الزفاف في أحد أيام العيد.
وكانت طرابلس مدينة التسوق الشمالية لأهل المناطق لرخص أسعارها وتنوع بضائعها قبل أن تتفرع المؤسسات الجارية إلى مراكز الأقضية. ولكن لا تزال الحيوية تسود أسواقها التجارية، وخصوصاً في الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل، حيث تهرع ربة المنزل لتأمين لوزام طبخة العيد.
ويؤمن أصحاب محلات اللحوم الطلبات قبل يومين من إطلالة العيد خشية أن يكون شهر رمضان 29 يوماً، وتكاد مأكولات العيد تتشابه في معظم البيوت ومن أهمها: ورق العنب، المحاشي، وغيرها مما يشتهر به المطبخ الطرابلسي.
كما تزدحم محلات السكاكر وبساطاتها بالزبائن الذين يحرصون على شراء نقولات العيد لواجب الضيافة…
ولا ينسون شراء كميات مضاعفة من الخبز التي يجب أن يكفيهم لأيام العيد بسبب عطلة الأفران في هذه المناسبة.
ويحرص الطرابلسيون على التجوال بعيد العصر، أو ليلاً في أسواق: «الكندرجية» و«العطارين» و«البازركان» و«سوق القمح» و«الراهبات» وسط مسيرات التكبير والتهليل من هنا وأغنية «الليلة عيد» و«هلت ليالي حلوة وهنية» في مكان آخر من البسطات المنتشرة في معظم الأسواق الشعبية.
صدقة الفطر
بما أن صوم المرء معلق بين الأرض والسماء لا يرفعه إلاّ زكاة الفطر، فإن جميع الصائمين يحرصون في الأسبوع الأخير من شهر رمضان على تحري مقدار هذه الزكاة، أو بالأحرى صدقة الفطر التي تُدفع قيمتها عن كل فرد أو خادم أو جنين.
وإذا كان الأغنياء هم المأمورون بإخراج زكاة أموالهم وهي ليست متوجبة على الفقراء طبعاً، إلاّ ان صدقة الفطر مفروضة على كل صائم وإن كان فقيراً معدماً لأنه في هذه المناسبة ستصله صدقات كثيرة، يعني انه صار في استطاعته تأدية صدقة الفطر.
كما يحرص المفطرون بعذر: مثل مرض مزمن أو عجز دائم، على أداء كفارة فطرهم بمقدار يحدده الشرع ليتولى توزيع كفارة الأيام التي أفطرها ولا يستطيع قضاءها.
ويفضل معظم الطرابلسيين أداء صدقة فطرهم نقداً بناء على أحد الآراء الفقهية، مما يوسع على العائلات المستحقة والمتعففة ويعينها على شراء لوازم العيد وإدخال الفرح إلى قلوب أبنائهم…
إنه شهر المرحمة والموآخاة والتكافل الاجتماعي.
زيارة المقابر
لا يتخلى معظم الطرابلسيين عن عادة زيارة المقابر قبيل يومين من إطلالة العيد، على الرغم من لفت النظر إلى وجوب التخلي عنها لأن العيد هو للفرح وللمرح. ولكنهم يخشون في غالبيتهم أن يتهموا بالتقصير وعدم «تشكيل» ضريح المتوفى وخصوصاً إذا كان حديث العهد.
و«التشكيل» هو جمع باقات من الآس وسعف النخل لشكها على الضريح بعد غسله حيث تتكدس أكوام منها أمام جبانات باب الرمل والتبانة والميناء وقبر الزيني والشهداء والزعبية والغرباء وغيرها.
وتعنى البلدية بتنظيف ممرات المقابر وتشذيب الشجيرات وإزالة تراكم الأوساخ وأوراق الأشجار وبقايا الآس المصفر.
ويتجاور الأهالي قرب الأضرحة، بعضهم يتلو القرآن الكريم ويجأر بالدعاء، وبعضهم الآخر اغتنم المناسبة للثرثرة والمراقبة والاستفسار عن أهل بنت أعجبتهم عروساً لأبنهم، فيما بعض المتطوعين ينهرون السيدات والفتيات المتبرجات »اتقي الله يا حرمة، واعتبري من الموت«.
وكذا الأمر مع «صباحية» العيد التي يزدحم فيها زوار القبور قبل صلاة العيد أو بعدها.
حمام وحلاقة العيد
درج الطرابلسيون خلال النصف الأول من القرن الماضي على ارتياد حمام السوق قبيل الأعياد، وفي مناسبات أخرى مثل زفة العرسان أو الاحتفال بطهور الصبي.
ولحمام العيد طقوسه التي كان يستعد لها الأهل قبل نحو يومين لتحضير الملابس الجديدة والمناشف وعدة الاستحمام (صابون عرايسي، ليفة، سكر معقود، كيس حمام شعر ماعز) طعام وشراب وخضار وحلويات.
ويتميز حمام السوق بفوائد صحية للجسم والأعصاب وبعض آلام العضلات والعظام، ويحرص عليه أبناء الفيحاء قبيل العيد في حمامات النوري وعزالدين والعبد والنزهة على جسر اللحامين قبل إزالته مع فيضان نهر أبو علي، وسابقاً حمام الجديد في حي الحتة، وحمام الحاجب في السويقة.
وهناك موعدان للحمام: أحدهما للنساء طوال النهار، والموعد الآخر للرجال من بعد الغروب، وتوضع شارة حمراء على مدخله دليل وجود النساء في هذا الوقت.
حلاقة العيد
من منا لا يتذكر حلاقة العيد وإصرار الأهل على التعجيل بعد الإفطار لتأخذ دورك على أحد كراسي القش عند حلاق الحي، حتى ولو لم يمر سوى أسبوعين على آخر حلاقة. فالأولاد تدفعهم الغيرة لأن يقلدوا بعضهم ويصروا على أنهم حلقوا حلاقة العيد، أي أنه لا عيد لمن لم يحلق خصيصاً له. وعلى فكرة فإن الطرابلسيين قلما يستعملون عبارة «قص الشعر» المتدوالة خارج حدود الفيحاء، ويؤثرون كلمة «حلاقة» التي يراها غيرهم خاصة للدقن.
ونظراً للازدحام يستعين الحلاق بأبنائه الذين يعلمهم الصنعة برؤوس أولاد العيد، ولا يستغرق الأمر أكثر من خمس دقائق و«أبي بيدفع لك» والحلاق ينفض مريول الشعر بسرعة «يللي بعدو، الدور لمين».. وهكذا حتى السحور.. وقد يعمل الحلاق يومين متواصلين وخصوصاً إذا كان شهر رمضان 29 يوماً، وفوجىء بمدافع العيد، عندها كتب عليه ان يظل واقفاً حتى آخر رأس عنده.
وليس أجمل من منظر رؤوس الأطفال المليئة بـ «بريانتين» اللماع وعلى رقابهم نتف من شعر الحلاقة… «وياللا عالحمام».
يوم الجائزة
إنه عيد الفطر، يوم الجائزة للصائمين القائمين حقاً طوال شهر البركات، يستحقون وعد الله «كل عمل ابن له إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أُجزي به»…
وكما كانوا يتلهفون لرؤية هلال رمضان في التاسع والعشرين من شهر شعبان، فإنه تتم بعد غروب 29 رمضان احتفالية التماس هلال شوال. فيما شوارع وأسواق طرابلس التجارية مزدحمة بالمتسوقين ينجزون طلبات أولادهم، ويتسقطون من حين لآخر أي خبر عن موعد العيد: غداً أم بعد غد؟! ولريما تأخر موعد إعلان الأول من شوال حتى قبيل السحور في بعض السنوات وذلك لوجود غيوم تحجب الرؤية، فيظلون على اتصال مع العاصمة لمعرفة رأي من يكون قد ثبتت لديه الرؤية.
أما في أيامنا هذه فلا يستغرق الإعلان عن بدء شوال سوى بضع دقائق حوالي العشاء، ويتم ذلك من خلال تشاور مع عدد الفعاليات الدينية في بعض الدول العربية من أجل توحيد موعد العيد. كما حاولوا ذلك لتوحيد موعد الأول من رمضان.
وقد حدث مرة أن تأخر وعد إعلان بدء يوم العيد حتى ساعة متأخرة من الليل مما دفع أصحاب المحلات التجارية المختلفة والخياطين والحلاقين إلى إغلاق محلاتهم، ليفاجأوا قبيل السحور بمدافع سبعة تعلن ثبوت رؤية هلال الأول من شوال.
ويهرع عند ذلك التجار والحرفيون معاً لتعود الحركة مجدداً عند السحور من أجل إنجاز مهمات التسوق والتحضير لصلاة العيد بعد أن ناموا على يقين بأن العيد بعد غد.
وتلبس طرابلس حلة جديدة من بهجة العيد بعد أداء الصلاة في الفلوات وتبادل التهنئة بصيام مقبول و«تقبل الله الطاعات» وكل عام وأنتم بألف خير، لا تخلو من غصة وداع الشهر الحبيب ضيف المدينة اللطيف الذي خيم على كل فرد وأسرة فيها، وعمت بركاته وخيراته مجتمع المدينة بما لم تشهده مدينة أخرى في لبنان.
ألم نقل في البدء ان رمضان طرابلس انقلاب في النفس والأسرة والمجتمع؟ أنعم به من انقلاب سلمي أذعن الجميع لبلاغاته وأوامره بدون ضغط أو إكراه.