طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

صحافة طرابلس صامدة

عندما نريد الكلام على الصحافة المناطقية في لبنان، نكتشف أن هذا النوع من الصحافة لم يعُد موجوداً في وطننا إلاّ في طرابلس، فيما المناطق الأخرى، وخاصة الجنوب وزحلة وغيرهما، حيث كانت تصدُر صحف عديدة، صارت الآن خالية منها، إلاّ في المناسبات.

واليوم، بعد 125 سنة على صدور أول صحيفة طرابلسية، بإسم «طرابلس»، في العام 1893، ولِفَهم طبيعة الصحافة المناطقية  الطرابلسية، علينا الإضاءة على ثلاثة محاور أساسية، هي التالية:

– أولاً: أسباب صمود الصحافة المناطقية في طرابلس فقط.

– ثانياً: لمحة تاريخية عن صحافة طرابلس والشمال.

– ثالثاً: إشكالية صناعة الصفحة الأولى في صحيفة مناطقية أسبوعية.

أسباب صمود الصحافة المناطقية في طرابلس فقط

أما سبب تمسُّك طرابلس بصحافتها المحلية مقابل خسارة المناطق الأخرى لهذه الصحافة، فهو يعود إلى أسباب تاريخية وديموغرافية واقتصادية وسياسية.

– تاريخياً، بين 1893، سنة صدور أول صحيفة في طرابلس، و1993، أي خلال مئة سنة، صدر أكثر من مئة صحيفة شمالية، وكان مركز غالبيتها الساحقة طرابلس.

وهذا العدد الكبير من الصحف يُعبِّر عن تقليدٍ ثابتٍ وحاجة مُلِحَّة للتعبير عن قضايا ذات خصوصيات تحمل تمايزات عن الدولة المركزية وعاصمتها بيروت.

– ديموغرافياً تختلف طرابلس (ومعظم شمال لبنان)، عن باقي المناطق اللبنانية، لجهة الموقف من النزوح إلى بيروت وضواحيها، إذ فيما تُعتبر بيروت، بالنسبة إلى معظم اللبنانيين هي «المدينة»، يعتبر الطرابلسيون، ومعظم الشماليين، طرابلس «المدينة»، أو «البلد» كما يسمونها.

ومن هذا المنطلق يُحجِم معظمهم عن النزوح إلى العاصمة، معتبرين طرابلس مستقرهم المهنيّ والسكني.

وهذا عامل يُبقي الصحافة المحلية حيّة كونها مرتبطة أولاً بالناس وحركتهم وتواجدهم والحيوية التي يخلقونها.

– اقتصادياً، يبدو أن السلبية التي أنتجتها الدولة المركزية المتوحشة، في التركيز على العاصمة وضواحيها، وإهمال المناطق، وفي حالتنا طرابلس والشمال، هذه السلبية أبقت طرابلس خارج الدورة الاقتصادية اللبنانية الفعلية، وفيما صارت المدن الأخرى ملحقة بالعاصمة، على كافة الصعد، بقيت طرابلس غريبة عن هذا المناخ الديموغرافي – الاقتصادي، وبقيت آليات حياتها اليومية شبه مستقلة عن الآلية الوطنية شبه السائدة على كامل مساحة الوطن، وهذه السلبية قد تكون أفقرت المدينة مادياً، غير أنها أغنتها بصحافة حيوية تُعبِّر عن خصوصية هذه المدينة.

– سياسياً، يرى معظم الطرابلسيين أن مدينتهم تنال عقاباً منذ نشأة الجمهورية، بسبب مواقفها في تلك المرحلة وصولاً إلى مرحلة الاستقلال، ثم في مراحل أخرى تالية، وهذا خلق شعوراً بالمظلومية التاريخية أو بسوء التفاهم، بل أن البعض يقول إن «الجمهورية اللبنانية الوليدة لم تستطع هضم طرابلس، وفي المقابل، طرابلس لم تستطع استهضام هذه الجمهورية»، وهذه مقولة بحاجة إلى نقاشٍ طويل، كونها تُعبِّر عن إشكاليات كثيرة ليس الآن وقت بحثها.

هذا المناخ، من «المظلومية» بسبب «العقاب الجماعي» المفترض من قِبل السلطة، إضافة إلى الشعور بشيء من الخصوصية في المواقف الوطنية والقومية، إضافة إلى الفشل التاريخي للطبقة السياسية الطرابلسية في إجراء «مصالحة» حقيقية بين المدينة والجمهورية تَحُلّ إشكالية «الهضم والاستهضام»، إضافة إلى استخدام أفراد هذه الطبقة لهذه المشاعر، المنتشرة في المدينة، لمصالحهم الذاتية عبر استغلالها للحصول على المزيد من النفوذ على الصعيدين المحلي والوطني، بدلاً من محاولة معالجة المشكلة ورفع الاهمال والحرمان وتحقيق الانصهار الاقتصادي والسياسي الفعلي، فتنهض المدينة بدلاً من أن تبقى متعثرة… كل هذه الأمور جعلت أيضاً السياسة الطرابلسية إلى حدٍّ ما خارج الدورة الوطنية، وذات دورةٍ ودورانٍ خاصَّين بالمدينة، فصارت الصحافة المحلية حاجة سياسية أيضاً، مما أبقى عليها حيَّةً، ولو مع معاناة.

لمحة تاريخية عن صحافة طرابلس والشمال

وفي الانتقال من أسباب البقاء إلى ظروف النشأة، لا بد من الإشارة إلى أنه قد تم توثيق المئة عام الأولى، من العمل الصحافي الطرابلسي والشمالي (1893-1993)، في مؤتمر نظمه «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» في 1993، ثم في كتيِّبين أصدرهما لاحقاً، واحد عن وقائع ذلك المؤتمر والمعرض الذي رافقه، وآخر يحوي معلومات توثيقية عن كل الصحف التي صدرت في الشمال خلال مئة عام.

في ما يلي، نورد بعض النقاط المضيئة والهامة التي رافقت مرحلة البدايات:

– فلقد وُلدت أول صحيفة طرابلسية في العام 1893، وكان اسمها «طرابلس» وأصدرها محمد كامل البحيري، إلى جانب تأسيسه في الوقت نفسه مطبعةً أسْمَاها «البلاغة». أما رئاسة تحرير الجريدة فتولاها الشيخ حسين الجسر، صاحب الفكر الإصلاحي، وذلك حتى وفاته في العام 1909.

وقد استمرت الجريدة تصدر أسبوعياً على مدى 24 عاماً، أي حتى العام 1917، وتُوفي صاحبها البُحيري بعد ذلك بثلاث سنوات، في العام 1920. ومحمد كامل البحيري لم يَسْلَمْ من التكفير وقتها، لكنه استطاع ان يصمد بصبره وتصميمه وآرائه القيمة، علماً أن جريدته قد تعرضت للتعطيل عدة مرات.

– ومن التجارب المضيئة في صحافة بدايات القرن العشرين في طرابلس، تجربة رجل الدين الشيخ عبدالقادر المغربي الذي أصدر في العام 1911 جريدة «البرُهان»، التي استمرت حتى العام 1915، وكانت تدعو إلى الإصلاح الديني وتحرير المرأة، فراجت رواجاً كبيراً.

– وهناك تجربة لطف الله خلاط، الذي أسس جريدة «الحوادث» في العام 1911 وكانت تصدر مرتين في الاسبوع، وتولى رئاسة تحريرها «شاعر الفيحاء» سابا زريق لخمسة عشر عاماً، واستمرت تصدر بانتظام حتى العام 1955، عندما اشتراها الصحافي الطرابلسي سليم اللوزي. وكانت «الحوادث» صحيفة معارضة دائماً.

– أما أول صحيفة أصدرتها إمرأة لبنانية، فهي «المستقبل»، التي أسستها ألفيرا لطوف في العام 1938 وظلت تُصدرها لمدة 35 عاماً.

– وأول جريدة يومية سياسية تصدر خارج العاصمة بيروت، كانت «الإنشاء» التي أصدرها محمود الأدهمي في طرابلس سنة 1947، وما زالت تصدر حتى اليوم وإن بشكل اسبوعي مؤقتاً.

– ومن التجارب التي تجدر الإشارة إليها، تجربة الصحافة التخصصية، فلقد أصدر كامل درويش هاجر، صاحب مصنع أحذية هاجر، في العام 1933 صحيفة «الصناعة الوطنية»، وهي اهتمت بتشجيع الصناعة الوطنية ومحاربة البضائع الأجنبية وتوعية العمال والمحافظة على حقوقهم.

– كذلك، هناك الصحافة الهزلية الساخرة، الفكاهية، وقد شهدت طرابلس أول ولادة لهذا النوع من الصحف في لبنان، في العام 1911 مع جريدة «السعدان» التي أصدرها محمد صلاح الدين مراد. وبعد ذلك بسنواتٍ صدرت في بيروت الجريدة الفكاهية الساخرة «الدبور».

عن صحافة طرابلس اليوم

وفي عودة إلى الوقت الحاضر، يوجد في طرابلس ست صحف سياسية، إضافة إلى عدد لا يُستهان به من الصحف والمجلات غير السياسية، وهي كلها تحاول بما امتلكت من امكانيات مادية ومهنية ان تلعب دورها كصحف محلية عليها الإضاءة على ما يدور في المدينة والمحافظة.

وبالنسبة إلينا في «التمدن»، ما زالت الجريدة تصدر بشكل منتظم عن شركتنا «دار البلاد للطباعة والإعلام في الشمال» منذ 46 سنة حتى اليوم. وهي اشتُهرت، منذ انطلاقها في العام 1972، بأنها جريدة معارضة للسلطة، كما عُرف عنها تركيزها على القضايا المطلبية في المدينة والمحافظة وخاصة في الشق الانمائي. وإضافة إلى إيلائها الجانب المعيشي التنموي اهتماماً واسعاً، لطالما ركَّزت الجريدة على القضايا الوطنية والقومية.

ولأن الجريدة محلية بنكهة مختلفة، هناك علاقة خاصة تربطها بمشتركيها من أهالي المدينة، هم الذين يدفعون اشتراكاتهم بإنتظام، وهم الذين لم يدفعهم الانترنت إلى عدم تجديد الثقة (والاشتراك) بها، وخاصة بنسختها الورقية، التي ما زال معظمهم (وخاصة مَن هم في منتصف العمر وما فوق) يحبذونها، علماً أن الموقع الالكتروني وصفحات التواصل الاجتماعي للجريدة تجذب  عدداً كبيراً من القراء، وخاصة من المغتربين.

لكن، ما زلنا مقصرين مع فئة الشباب، على الرغم من إصرارنا على إصدار ملاحق عديدة ودورية، في المواضيع التربوية والصحية والمصرفية والإعمارية والسياحية.

إشكالية الصفحة الأولى

تبقى إشكالية أسبوعية، هي ان الجريدة يُنظر إليها في المدينة كجريدة، (أي كمصدر للخبر)، فيما آلياتها (ميكانيزماتُها) هي آليات مجلة، كونها اسبوعية وعليها ان تبحث عما وراء الخبر.

لذلك، هناك دائماً إشكالية المانشيت. فهل نحن جريدةٌ على مانشيتها أن يحمل خبراً ما (علماً أن أي خبر في أي جريدة، ولو كانت يومية، بات «قديماً» بوجود الفضائيات والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية)، أم نحن مجلة اسبوعية شكلها شكل جريدة، وقد يحمل مانشيتها عنواناً له علاقة مثلاً بزراعة الأفيون في أفغانستان (أي حول موضوع عام جداً وقد يكون دولياً)!

لقد عالجنا هذه المشكلة جذرياً منذ أكثر من ثلاث سنوات، عندما بدأنا اعتماد صورة كبيرة للصفحة الأولى مع عنوان قصير، والصورة والعنوان، المرتبطان بشخصيةٍ أو بمشهدٍ أو بمكان، عليهما ان يُعبِّرا عن حدثٍ هام جرى خلال الاسبوع الذي مضى،  أو من المتوقع أن يجري قريباً، وفي صفحة داخلية أو أكثر (عادة على الصفحتين 2 و3) يتم نشر الخبر الأساسي المتعلق بصورة الغلاف، إضافة إلى موضوعات مختلفة مرتبطة به، مع إضاءات معلوماتية تاريخية وآنية جانبية تُعلِم القارىء بكل خلفيات «موضوع الغلاف»، سواء كانت تاريخية أو سياسية أو اقتصادية.

وهكذا دمجنا ما بين «منطق الجريدة»، القائم على نشر الخبر الحارّ (إذا جاز التعبير) و«منطق المجلة» القائم على نشر ما وراء الخبر في ما يشبه التوثيق.

أخيراً، وبعد 125 سنة على الصحيفة الأولى «طرابلس»، ما زالت صحافة المدينة صامدة، وما زالت هذه المدينة تؤمن بصحافتها، لأنها صوتها العالي (شبه الوحيد) في وطن «البخور والعسل»… والطائفية والمذهبية والكيدية والتمييز والتهميش والأحقاد المتناسلة.

صوتٌ عالٍ في دولة فاشلة يحكمها نظام فاسد… لعلّ وعسى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.