إصدارات في طرابلس: الشمس لا تحترق

أيها الغريب
كتبت الأديبة مايا ملحم في جريدة النهار كلمة نقدية لكتاب «أيها الغريب» لمؤلفه سليم الرافعي الصادر عام 2004.
تختلط مفاهيم الغربة والغرابة والوطنية والعبقرية في أُطر فلسفية نثر الكاتب سليم الرافعي بذارها في ثلاثة وعشرين فصلاً من كتابه «أيها الغريب» نداء للغريب هو أشبه بنداء للغربي في أرض الشرق بيّن فيه الكاتب هوّة بين حضارتين حضارة الأرض والمساجد وحضارة النظريات والمعامل.. عبرة ربما أراد الكاتب ان يخلص إليها من كل فصل عالج فيه الحالات الإنسانية والاجتماعية.. إلاّ انه لم ينجح دوماً في ايصالها إذ غاص في التحاليل الفلسفية مشرعاً نظريات لاينشتاين وراسل ونيوتن وابن خلدون والمقصود منها ليس واضحاً: نثر – شعر – فلسفة – خيال.. أم واقع..
قد تكون قيمة هذا الكتاب في غموضه.. عناوين أدبية لمضامين فلسفية مبهمة حول الانتماء والعبقرية والعظمة والإلحاح.. حالات إنسانية واجتماعية صعبة المعالجة يكتفي الكاتب بفلسفتها رغم صعوبة فهم النفس البشرية.. يستخف مثلاً بالعبقرية ليخلص إلى انها «مأزق البشرية» قد تكون نظرية لم يسبقه إليها أحد إذ يُبسط آفاقها ويعاتب الناس المبهروين بها.. تتوالى بعد ذلك مجموعة نداءات للمجتمع والتاريخ والوقت واللغة لو استرسل فيها الكاتب لمنح كتابه نفحة شعرية متميزة حددت هويته.. وتغلب السخرية في هذه النداءات بحيث يجروء الكاتب على تشبيه المجتمع بفئران تهاب أنياب القطط لتنجو… لا تغيب الرومانسية عن هذا الكتاب محاكمة للإله واتهامات تصبّ في قدرته وإرادته يستدركها في فصل «يريد أو لا يريد» بأسئلة بيانية تجنبه موقف الإلحاد والسخرية وتُشرك القارىء في التحليل.
يتفاوت مستوى التعبير في هذا الكتاب بين فصل وآخر كما تتفاوت ردود فعل القارىء بين المفاجأة والضحك والغموض والانزعاج…
لكن كتاباً ذا نفحة شعرية وأدبية وفلسفية كهذا يفتقد الرومانسية فالكاتب يحاول تجنب هذا الفخ إذ يضمّن كتابه نداء تحت عنوان «أيها الحب» ينحرف مرة أخرى من الشعرية إلى الفلسفية.
من مفكرة الميناء
يا دخان «قرطاجة» المحترقة
لا تحجب عني دخان «روما» المحترقة
أيها الجبابرة الحارقون… أنتم المحروقون
الملكوت يسطع لأن مجاديف «فينيقيا» تطفئ الحرائق
صعدت الحروف المبللة بالعرق… ما أشبه عرق الجباه بلآلىء البحار
مُلهمون يتكلمون… هذه هي معجزة المجداف
موانىء صيدا وصور وجبيل وأرواد تتعانق في طرابلس
أفق مدجج برسائل البشارة الحاسمة
يجب أن يتكلم سقراط وأفلاطون وأرسطو والآخرون
كثبان الصحارى تنتفض في أفواه امرىء القيس والأعشى والنابغة الذبياني
محاورون جدليون في بلاط الإمبراطورية يدلون بأصواتهم
شهب في سماء «بغداد» تضيء أفواه العرب والعجم
هذه الضمائر المجبولة بالتصوف والتفلسف تناجي روح السماء
لا جاهلية بعد نزول الكتب المقدسة
حضرت شعوب الصحراء من الأعماق الغامضة
اتضحت الشعوب… اغتسلت… برزت تقاطيع وجوهها
أنني أنادي موانىء أوروبا
يا أبناء الثلوج… تطهرتم… تقدستم
اهتفوا… أني أسمعكم
الكلمة العاشقة هي موجة »فينيقيا« الدافقة
أخوة في التراب… أخوة فوق العباب
تسمعون «فينقيا» المقدسة في هياكلكم وجامعاتكم
آه… أني أتذكر… ماذا أسمع؟
هدير الموجة البكر… حبيبتي… لأنك عذراء خالدة في أحضان…
آه… شباب لبنان يقبلونك منذ ثلاثة آلاف عام…
من هو؟
كم هو مدهش ان أجد كاتباً جم التواضع غزير العطاء بعيد الهمة مؤمناً ملتزماً محباً لإخوانه وفياً لذكراهم ينشر فضائلهم ولا يخفى دخائلهم.. ينقل إلى القارىء همسة موسيقية أشبه باعترافات الكبار من الرجال ذوي الثقة بالجزء الإلهي الراسخ في البشرية.
لقد ثوى أولئك المبدعون في مراقدهم..
هل يعلمون أن القلم يمتلئ من دم التاريخ حين ينقله إلى العصر الحديث يحقق به انتصار الضمير الحي لكل جيل.
أيها الغريب
لماذا؟
هكذا انطرح ذلك السؤال الأحمر: لماذا؟
هكذا تدفق الجواب الأخضر:
لأن الشمس لا تستطيع.
.. واسترْسَل: لا بدّ من الدفء..
لا بدّ من الحياة
ولذلك لا بدّ للوجود من شمس
لا تحترق
تلتهب الأعضاء كي تتجلّى الإرادة
تلتهب الحروب كي يتأكد الصراع
الخدود.. آه.. الخدود لا تحترق.
رهبان خاشعون..
عشاق مضطرمون..
سمعوا استغاثة مقدسة:
«يا نار كوني برداً وسلاماً»…
أطلنطد
(1)
في مهجع النوم
غرفة مطفأة
أستتر تحت جلدي
أواصل.. أواصل الاختفاء
ذراعاي أيضاً مقيدتان
(2)
الأحلام.. متى تنام؟
أوثق النوم ساقيّ أيضاً
ولكني أركض.. أركض
شخوص متفاوتة الوجوه
آه.. مواطنون من (أطلنطد)
سحقتهم اليقظة
يقصون عليّ ما حدث
(3)
هل أنتم أنتم.. مازلتم؟
تحت العباب.. على فراش السراب؟
لا. لا.. اسمحوا لي.. لا أحب الضجّة
لا تسألوني… بل أنتم تعرفون
أيها الرفاق.. أيها الخالقون
أنا أريد أن اطمئنكم..
أنا لست أنا
من سرق البحر؟
غيوم.. غيوم.. تصلي.. تصوم
هياكل.. معابد.. وسائد.. قلائد
في جسد الضباب مسوح رهبان
يخجل الماء من البوح بأغرودته
يحتمي بعضه ببعضه الآخر
يؤدي الجميع صلاة الاعتراف
طرح المصلون خزائن موبقاتهم
علا صوت آمر: أفرغوا سرائركم أيضاً
رهبان ملثمون: سمعاً وطاعة
– أبانا الذي في السماء
ترنّ صفعة تأنيب: تدّخرون ما تسرقون
افرغوا رؤوسكم من وسائد المؤامرات
من أحلّ لكم سرقة مياه البحر؟
الاحتكار.. الادخار.. الانتظار
صرخ التائبون: أبانا الذي في السماء
التطهير نريد.. أقبل منا توبتنا
قرأ الجميع: الماء حياة
من يسرق الماء؟
أجهش الجميع بالبكاء: انهمرت بحار
علت صرخة – اعترفوا.. من أخفى البحر في عينيه؟
العرب واليونان
أمتان.. قضيتان..
نستطيع ان نقول بدأت الشخصية العربية موازية للشخصية الإغريقية.
حديقة «أكاديموس» في اليونان
حديقة «سوق عكاظ» في الجزيرة العربية
تُنبت الحديقتان مختلف الورود والرياحين
والحق انه لم يوضع حجاب بين الأمتين
العقل الإغريقي يقع على الأرض.. يلتقط الأزلية
العقل العربي يمتشق السيف.. يناجز غطرسة الطبيعة
لغة الاغريق كلمات
لغة العرب كلمات
شخصيتان عظيمتان شاع تأثيرهما في الشرق والغرب قامت نهضات وإمبراطوريات على دعائم ثابتة.. بل يصح القول انهما نبوّتان عبرتا عن الأعماق الشائكة فما برحت الوردتان تتألقان وتتناثر أوراقهما وتفوح رائحتهما.
ما هو العقل اليوناني؟
فلنقل انه الوجود الصامت أراد ان يتكلم.. بالانحناء على تراب الأرض..
يا له من جهد ينتمي إلى أعضاء الطبيعة المحتجبة يمزق العقل حجابها.. لا يدعي انه ابن السماء.. ذلك ان الأشياء التي تحقق وجودها تدين لألوهية العقل تَرث منها الشعوب في الغرب وجودها كما ترث الشعوب في الشرق تلك النبوة الهابطة إلى التراب، فلو لم تكن السماء محتاجة إلى طين الأرض لما تشكلت الصحارى والجبال والأودية والبحار والأنهار.
ثمة استقرار في إحدى النبوتين مقرون بالفروسية.
نحن هنا في الشرق الذي يرتل ما نطق به الإله.
ماذا يحصد المرتلون؟ هذا هو السؤال.
أجابت الانتفاضة في آسيا وأفريقيا موالية نزعة التساؤل.
نبغ السؤال في أشداق المحققين: ما الشخصية العربية؟
نبغ الجواب على الفور: الماء – المرأة.
الصحراء خالية.. هذا موضوع أكاديمي.
يتقدم ملاك مزود بخريطة الجنة
يسمع الظماء هدير الماء
نهر من اللبن.. نهر من العسل.
تتنافس الشعوب في الشرق لرؤية الحور العين نساء زرعهنّ جميل بثينة وعروة بن حزام وفيلسوف الجمال الكوني: عمر ابن أبي ربيعة ومجنون ليلى.
يقول النقاد.. نهر من العسل وعناق على مهل.
الشخصية العربية من أعماق المادة.. من لوعة الالتحام الأبدي.
رجل وامرأة.. صلاة ودعاء.. عفاريت وملائكة.
فلتكن الأمة العربية للعالم كله بكلمة «السلام عليكم» لأنها تنتقل برشاقة دامية من الصحراء إلى بساتين دمشق ونخيل العراق وتحتطب من أهرام مصر منابر لا تنفرد بنفسها بل تجاور العمال والفلاحين وتؤاخي النبيين والمتفلسفين والمتصوفين.
اليونانية والعربية في حقائق المعارك الروحية والفكرية صبيتان تعشقان الحبيب الأول..
أواه.. متى ينتهي زمن العناق؟
المدرسة
ما تزال الأمم تُحصي عدد المدارس، وتشير إلى نوعية التعليم.
بقدر ما تكثر المدارس وتزدحم يصح إنتماء الأمة إلى الوطنية وإلى العالم الحديث ذلك ان «أديسون» ينتمي إلى العالم يومياً.. لأنه وهب لنا المصباح الذي نستضيء به في كل مكان وزمان.
و«غوتنبرغ» صنع المطبعة التي ما تزال أقوى رابطة بين الشعوب.
«غوتنبرغ» هذا يتكلم الألمانية لغة أبائه، ولكن مطبعته تتكلم جميع اللغات، تلك الفرصة التي أُتيحت للشعوب، من منا يتجاهلها؟
أكبَّ الناس على طباعة كتبهم المقدسة ومأثوراتهم وطموحاتهم، فقرأ بعضهم بعضاً، وأمكن الارتباط.. وما أصعب الارتباط، لقد عُرفت الثقافات ودُرست الحضارات تحت ضوء المصباح الكهربائي وضمن حروف المطبعة.
يتحدث المدرسون بلغة بلادهم، والحق ان جميع اللغات تزدحم في المدرسة، فيُخيل إلى الطالب انه يتعلم لغات الأمم كافة من فم المدرس، لأنك عندما تُطل من رأس جبل، فإنك لا ترى منزلك وحده، بل ترى جميع المنازل.
هكذا يتصل العلم بالعالم.
أيها الشباب: ما هو عالمكم؟
انه الحرف أيها الشباب، تكمن فيه القومية والوطنية والمستقبلية، وعندما تصبحون مسئولين – في الغد القريب – تدركون قيمة الحرف.
كل كلمة تحمل شيئاً خفيفاً أو ثقيلاً.
لا يستطيع أحد ان يضع توقيعه إلاّ في موضعه.
والمدرسة – أيها الشباب – تعطيكم الحرف.
وتدركون من خلال قيامكم بالمهام، ان الحضارة هي في اختيار الكلمات ووضعها في الموضع المناسب، وكل من يفشل في ذلك لا يستطيع دخول العالم.
طُبع كتاب «الشمس لا تحترق»
في «دار البلاد للطباعة والإعلام في الشمال»
والتصميم قامت به شركة Impress