طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

القصة الكاملة لـ «دولة المطلوبـين» في طرابلس سنة 1974 (3)

الصورة في الأعلى: أحمد القدور في الأسواق الداخلية لطرابلس متوسطاً بعضاً من أركان «دولته»، ويبدو الصحافي الراحل الزميل نجيب اسكندر الى يسار القدور، وكان يجري تحقيقاً صحافياً حول هذه الظاهرة… الصورة في الأسفل يميناً: أحمد القدور ومظهر الشامي بعد اعتقالهما… من المعتقلين أثناء مداهمة الأسواق القديمة لطرابلس حيث كانت تتمركز
… إنها طرابلس وعلاقتها الملتبسة بـ «الدولة»، منذ نشوء الجمهورية اللبنانية، عندما صار العصيان جزءاً من هويتها، وصارت المدينة بدورها صندوق بريد سياسياً أو أمنياً يستخدمه من يستغلون مشاعر الرفض والغضب الممزوجة بالقهر والحرمان، لتنبت كل بضع من السنوات في أسواقها الداخلية ومناطقها الشعبية «دولة مطلوبين» من هنا و«دولة مطلوبين» من هناك. وما أشبه ما حدث في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بما حدث في السنوات الثلاث الماضية في هذه المدينة الصابرة والمظلومة. 
في العددين الماضيين نشرت «التمدن»، حلقتين عن قصة «دولة المطلوبين» («دولة القدور»)، مستندةً الى ملف كامل نشرته «التمدن» في عدد خاص في شباط 1975، علماً أن «دولة المطلوبين» كان قد أطلقها أحمد القدور بعد اتهامه بقتل الطالب محمد خالد بحوش في 18/3/1974، الى أن قضت الدولة اللبنانية على هذه «الظاهرة» في 5/1/1975. ما تمّ نشره حتى الآن تناول مشهدية دخول «الدولة» الى الأسواق الداخلية، ومن هم «المطلوبون»، وما هي أبرز الأحداث التي حصلت خلال «حكم» «دولة القدور» وقبل نهاية هذا «الحكم» الذي امتد لأكثر من تسعة أشهر، وماذا جرى في المدينة القديمة؟ في هذا العدد ننشر الحلقة الثالثة، التي نتابع فيها سرد الأحداث التي حصلت في تلك الفترة، وماذا كان على الدولة أن تفعل كي لا تتجدد «دولة المطلوبين»؟

البداية

في ملف «التمدن» الذي صدر في شباط 1975، جاء الوصف التالي لبداية ظاهرة «دولة المطلوبين» في طرابلس:
«كانت سيارة «فيات» بيضاء تقل أربعة أشخاص عندما اعترض طريقها حاجز (اعتصام) أقامه أهالي وطلاب المنية. فترجل أحد ركابها وأطلق النار إرهاباً، في محاولة لاختراق الحاجز. غير ان الأمر تطور فأصيب الطالب محمد خالد بحوش (20 عاماً) بثلاث رصاصات في صدره.
انطلقت الفيات نحو طرابلس محاولة الإفلات، بعدما أصيبت برصاص صدر عن بساتين المنية، في حين كانت سيارة «مرسيدس» تقل الطالب الجريح تحاول تجاوزها إلى طرابلس أيضاً.
وعند مفترق دير عمار – طرابلس التقت السيارتان، فاعتقد ركاب «الفيات» أنهم مطاردون، مما دفع بأكثر من واحد منهم إلى إطلاق رصاصات أصابت إحداها الطالب الجريح نفسه وقتلته.
كان ذلك يوم الثامن عشر من آذار عام 1974، وهكذا وجد أحمد خالد المحمد (الشهير بالقدور) نفسه متهماً بقتل الطالب باعتباره واحداً من ركاب الفيات، فتوارى عن الأنظار.
ولما خلا إلى نفسه ازدحمت في رأسه أسئلة عديدة، تضاربت حولها الأجوبة وعطلت تفكيره. وفي كل مرة راودته فكرة الاستسلام لدفع الشبهة عنه ازدحمت ذاكرته بالعديد من صور الماضي القريب وخرج بجواب واحد لا يتزحزح..
كان في ذاكرته صورة العيون الحانقة الحاقدة المتوقدة بالكراهية، والأفواه المليئة بالعبارات القاسية الجارحة، و«الأحذية الثقيلة» واصطدامها بعظامه داخل زرائب لا يُحشر فيها إلاّ الحيوان.
كان في الذاكرة أيضاً صورة أخيه المضرج بدمه بعدما صرعه رصاص الدرك عندما خرج من ملجئـه رافعاً يديه معلناً إستسلامه..
وفي الذاكرة أيضاً صورة للأسواق الداخلية، الحصن المنيع، المؤلف من مجموعات من الأبنية القديمة بجدرانها الغليظة.. ضيقة المسالك، وأزقة.. عشرات الأزقة المتعرجة والمتصلة بسراديب تقوم فوقها أبنية متلاصقة، وممرات كبيوت النحل، تحت الأرض وفوقها..
وفي الذاكرة سكان تلك المنطقة، مصدر كل حركات الرفض والعصيان والمقاومة.. لهم نظامهم وقوانينهم الخاصة وتقاليدهم وأعرافهم..
ولم يكن أمامه مجال للاختيار.. فاندفع إلى الأسواق الداخلية حيث وجد العديد من أقرانه بالإضافة إلى عطف «المطلوبين بحوادث سياسية».
وبدخول أحمد القدور إلى الأحياء القديمة، أصبح مركز جذب، اتسعت دائرته يوماً بعد آخر واستهوت العشرات من الفتيان – ممن لم يفسح لهم «المجتمع المترف» مجالاً للعيش على هامشه – واستقرت النواة في أرضية سياسية أمنت لها مورداً دائماً من المال والعتاد والسلاح!
وكانت أول إشارة علنية لقيام «دولة المطلوبين» يافطة تصدرت ساحة النجمة، حملت الجملة التالية:«أليس في لبنان مطلوبون من غير طرابلس – نريد المساواة».
أتى ذلك عقب سلسلة من الأحداث المتفرقة والمتباعدة كان أهمها في 31/5/1974 عندما حاولت السلطة إعتقال أحمد القدور مع مطلوبَين آخَرَين، خلال تشييع جنازة ابن عم نائب طرابلس موريس الفاضل. غير ان تدخل المطران الياس قربان واحتجاجه، على الظرف الذي اختارته قوى الأمن لاعتقالهم حال دون ذلك، بالإضافة إلى المسلحين الذين انتشروا عند مفارق الطرق. وتلافياً لافتعال مجزرة تراجعت السلطة عن عزمها فيما أنسحب المسلحون إلى الأسواق الداخلية».

شريط الأحداث

∎ 5/11/1974 المواجهة الأولى
نتيجة لحادث فوري بين المواطن الطرابلسي نور متلج وبين مرافق سليم كرم، عاشت مدينة طرابلس على أعصابها، وسادها جو من التوتر رهيب. فقد اندفع مئات المسلحين من الأسواق الداخلية باتجاه ساحة الكورة حيث كانت قوات الأمن تحاصر مطلق الرصاص على مرافق السيد كرم.
وأمام هذه الهجمة الحاشدة من الرشاشات وزخاتها الكثيفة اضطرت القوة المحاصرة إلى التراجع، فيما تمكن نور متلج من اللجوء إلى الأسواق الداخلية.
خطف قاصرة
في هذه الأثناء كان ثلاثة من المسلحين قد اختطفوا فتاة في الثالثة عشرة من عمرها ومضوا بها بعيداً. وعندما سمعوا أصوات الرصاص الغزير، اعتقدوا ان «دولتهم في خطر» فتخلّوا عن القاصرة وتوجّهوا إلى الأسواق.
وفي الساعة الثانية بعد الظهر التقى كل من خضورة زبيدي ومحمد برغشون – وهما من زعماء الأحياء القديمة – في ساحة الجامع المنصوري الكبير، حيث تبادلا إطلاق النار قتل الأول وأصيب الثاني إصابة بالغة وأصيب برصاصهم اثنا عشر مواطناً صدف مرورهم في تلك اللحظة بإصابات مختلفة. ولم تمض دقائق حتى حضر معن برغشون شقيق محمد مستفسراً عن الحادث. وعندما أدار ظهره عائداً عاجله مسلحون برشات من الرصاص صرعته على الفور. وتردد أن أسباب الحادث تعود لأن صديق برغشون تحرش بإمرأة مما أساء إلى خضورة الذي استنكر هذا العمل وأصاب المتحرش في قدمه.
وبعد ذلك استمر إطلاق النار غزيراً في الأسواق الداخلية، فأقفلت المتاجر وأقفرت الشوارع وساد المدينة جو من الرعب.
في المساء قام أحد المسلحين الثلاثة بتهديد ذوي القاصرة بنسف المنزل إذا لم يسلموا ابنتهم!
∎ 7/11/1974 المواجهة الثانية.. مواجهة مع طرابلس
انفجر الوضع في طرابلس فتحولت المدينة إلى ساحة «حرب» بين قوات الأمن و«دولة» المطلوبين المتمركزين في الأحياء الداخلية. وكانت حصيلة الاشتباكات – التي بدأت بعد الظهر واستمرت ليلاً – ضحيتان بريئتان رندة أحمد اليسير – 18 عاماً – ورجل كان هارباً من الرعب يدعى مصطفى خالد خالد.
وقد استعملت في الاشتباكات أسلحة من مختلف الأنواع، وتوالى إطلاق القنابل والمتفجرات وقذائف الـ «أر. بي. جي» بعنف كان يهز المدينة التي عمّها الذعر. وعززت قوات الأمن بالآليات ودفع بالمغاوير إلى ساحة المعركة، واطلقت دوريات مصفحة من قوات الجيش في محاولة لتطويق معاقل المسلحين بحيث خُيِّل للمواطنين ان معركة الاقتحام قد بدأت.
∎ 8/11/1974 الاقتحام لم يتمّ!..
منذ الفجر استؤنف تبادل إطلاق النار بين القوى المحاصِرة والمسلحين في الأسواق التي تحوّلت إلى قلعة من نار بعدما حمل السلاح كل من وجد في اقتحام السلطة لطرابلس القديمة محاولة لتجريد المواطنين من سلاحهم. وتحولت المواجهة بين السلطة والمطلوبين إلى مواجهة مع طرابلس بكاملها.
فأعلنت الأحزاب والهيئات الوطنية استنكارها لمحاولة السلطة، ونشطت الاتصالات بينها وبين ممثلي الدولة لفك الحصار عن معاقل المسلحين والحؤول دون تدهور الوضع على أن تتم تسوية تضمن عودة الهدوء والاستقرار إلى المدينة.
بعد الظهر صدرت أوامر رئيس الحكومة إلى قوات الأمن بالانسحاب، فأزال المسلحون المتاريس. وبدأت طرابلس تتنفس. كانت حصيلة الاشتباكات جريحان من الأبرياء.
وعلى الأثر صدر بيان من المطلوبين بتوقيع «المقاومة الشعبية في طرابلس» يحمل الشكر لأبناء المدينة الذين دعموا قضية المطلوبين. وقد جاء في البيان:
«ان قضيتنا كانت دوماً قضية لكل مواطن يرفض الظلم والحرمان والتعسف ويحتجّ ويثور على سياسة صيف وشتاء على سطح واحد».
∎ 23/11/1974 بيان ممثلي الأحزاب
دعا عدد من ممثلي الأحزاب والشخصيات السياسية والاقتصادية رئيس الحكومة الجديد رشيد الصلح للحضور إلى طرابلس لعقد اجتماعات مخصصة لبحث قضية تدهور الأمن في طرابلس.
وجرت مناقشات واسعة مع رئيس الحكومة حول الأسباب، قبل أن يجمع الرأي على أن يرد ذلك إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها الفئات المحرومة في الأحياء الداخلية في طرابلس. ثم تركز البحث حول ضرورة ايجاد حل عادل لقضية المطلوبين والموقوفين لأسباب سياسية.
وعقب الاجتماع صدر بيان عن الأحزاب والشخصيات الوطنية في طرابلس طالب السلطة بحل القضية السياسية ولا سيما المتعلق منها بأحداث نيسان 69 وتشرين 69 وكانون الأول 73 وما نتج عنها. وذلك بإصدار عفو عام عن المشتركين فيها، محكومين كانوا أم موقوفين أو مطلوبين، وبمعالجة قضية المطلوبين للعدالة بمسائل شخصية بروح متفهمة للأوضاع النفسية والاجتماعية وانعكاسها على وضع الأمن في المدينة، كما أعلن البيان عن تشكيل لجنة مالية للتنسيق مع الدولة من أجل دفع التعويضات للمتضررين من الأبرياء حتى تاريخ الجمعة 8/11/1974.
∎ 21/11/1974 نسف البنك البريطاني
– في التاسعة من المساء دوى إنفجار في ساحة التل هزّ المدينة وحطم زجاج الأبنية المحيطة به وبعض السيارات، وتبين ان متفجرة وضعت عند مدخل البنك البريطاني فخلعت أبوابه وحطمت محتوياته.
– ألقيت متفجرتان على مدخل مدرسة المطران الرعائية في محلة «الحارة البرانية» تسببت بأضرار مادية بسيطة.
استولوا على المنزل
– بعد غياب، عاد المواطن علي الطحال الملقب بعلي «باعها» إلى منزله فوجده مصادراً. وعندما احتج ساقه أحد المسلحين وأطلق عليه الرصاص فسقط جريحاً!
– نسف جهاز الإرسال.
– نسف البنك اللبناني العربي.
– نسف مخفر الخناق.
شو الدنيا فوضى؟
عند حاجز الرفاعية، الذي أقامه المسلحون، مرت سيارة استوقفها المسلحون فاكتشفوا أن أحدهم لا يحمل هويته فسأله المسلح عن هويته فأجابه المواطن: «ما معي..!». وعلى الفور بادره المسلح قائلاً: شو هي الدنيا فوضى؟
∎ 30/11/1974 بيان ومتفجرة
وزع في طرابلس بيان حمل توقيع أحمد القدور ورفاقه نفى فيه التهم الموجهة ضدهم وخاصة عمليات التفجير وارتكاب جرائم أخلاقية.
∎ 2/12/1974 النار على مفتشي الأمن العام
أطلق المطلوبون النار على سيارة كانت تقل ثلاثة من رجال الأمن العام، قرب ساحة النجمة، فأصيب الموظفان خالد ماضي ومحمود عثمان بعدة رصاصات، واستولى المسلحون على السيارة.
كما ألقيت متفجرة تحت سيارة فولسفاكن وأطلقت من الأسواق الداخلية قذيفة «ار. بي. جي»، فتوتر الجو في طرابلس وصدرت زخات كثيفة من الرصاص وأغلقت المدينة متاجرها فيما استمرت الانفجارات عبر موجات الطلقات النارية المتتالية. وقد قتل المواطن عبدالرزاق بريص خلال هذا الجو المحموم برصاصات طائشة.
طرابلس تتململ
بدأت موجة الاستياء تتسع وتعم المدينة بكاملها بعدما أصبحت مدينة مفتوحة أمام الإرهاب والابتزاز والإجرام.. لقد تحوّلت إلى سجن كبير، تحبس فيه الأنفاس بانتظار حدوث شيء ما..! والحزن والرعب يلفانها بالسواد مع غياب الشمس..! المواطن فيها أسير نقمتين، فغياب السلطة إشارة إلى استهتار المسؤولين – كافة المسؤولين – بمصير طرابس التي تعاني نزيفاً يومياً في رجالها ومالها.. وعبث المطلوبين بالرصاص والمتفجرات إشارة إلى خلفية «إجرامية» تحرّكهم بعيداً عن كل مقاييس تراعي حرمة المنطقة التي يتواجدون فيها.
∎ 11/12/1974 استسلام مطلوبين
عم المدينة جو من الارتياح بعدما ترددت أنباء عن تسوية ممكنة واستسلام أربعة مطلوبين وهم: عبدالله مسلماني، محمد جهاد الشامي، زكي أحمد منصور، ناجح خضر حلاب.
∎ 12/12/1974 هدنة!
عاد إلى الأسواق الداخلية هدوؤها وأزيلت مظاهر العصيان وسكنت الرشاشات، فيما بدا انه هدنة بمناسبة حلول الأعياد.
∎ 13/12/1974 تهديد ورصاص
أطلق الرصاص على محلات صاغية للمفروشات في محلة الزاهرية. وكانت مخابرة هاتفية حملت التهديد بقتل أصحاب المحلات ولم تعرف الأسباب كما قُبض على محمود إبراهيم فكشف عن المشتركين بوضع متفجرات في مدرسة المطران الرعائية.
∎ 18/12/1974 قتلى وسلب ومتفجرة
– سقط محمود أبو لقمة وسميح أحمد ورور مضرجين بدمائهما وصرعا على الفور بعد إصابتهما بزخات رصاص من رشاش كلاشينكوف. وتردد ان الأسباب تعود إلى لعبة قمار.
– سلب مسلحان محلا للبقالة في باب التبانة.
– وجد الشاب محمد نهاد كمال الدين مطعمة مقتولاً بانفجار قنبلة ومصاباً بعدة طلقات نارية في محلة القبة.
– قتل عبدالله خليل دنيا برصاصة انطلقت من مسدس زميله سيف العريبي أثناء ممازحته.
– ألقيت متفجرة على محل في ساحة البلدية القديمة يملكه طنوس بطرس فرنجية.
– أطلق الرصاص بغزارة ليلاً بعدما أُعلن عبر التلفزيون ان مجلس الوزراء كلف الرئيس رشيد الصلح بمعالجة الوضع في طرابلس.
∎ 19/12/1974 رصاص المناسبات
تم تشييع جنازة القتيلين أبو لقمة وورور وسط زخات من الرشاشات. 
∎ 21/12/1974 اقتحام مدرسة
اقتحم مسلحون مدرسة الغزالي بأمر من مديرها بنيامين كيال (!!!) لإخراج الطلبة المعتصمين داخلها، فجرحوا عدداً من الطلاب وأصيبت واجهة المدرسة بطلقات نارية. كما أصيب فواز الأحدب برصاصة طائشة في صدره.

كي لا تتجدد «دولة المطلوبين»(1)

في العدد الخاص الذي أصدرته «التمدن» في شباط 1975، والذي تضمن ملفاً كاملاً عن ظاهرة «دولة المطلوبين» كتب المحامي حسين ضناوي نصاً بعنوان «كي لا تتجدد دولة المطلوبين». في ما يلي ننشر من هذا النص، الجزء المتعلق بمسؤولية السلطة الحكومية بكافة إداراتها وأجهزة الأمن فيها، على أن ننشر في العدد المقبل الجزء المتعلق بمسؤولية الشعب الطرابلسي، من جهة، والمطلوبين من جهة أخرى:
كي لا تتجدد دولة المطلوبين في طرابلس، علينا، ان نمنع أسباب الوجود التي تسبق قيام هذه الظاهرة الخطيرة في المجتمع والخطيرة على حياة طرابلس بالذات وعلى دورها الوطني والاجتماعي والتقدمي.. هذه الأسباب التي إن بقيت فلا بد ان تقوم دولة جديدة لمطلوبين جدد، وان تمر في ظروف صعبة كالتي مررنا بها.
الأطراف التي لها علاقة بقيام هذه الظاهرة، هي:
1- السلطة الحكومية بكافة إداراتها وأجهزة الأمن فيها.
2- الشعب الطرابلسي بمستوييه، المستوى القيادي والمستوى الشعبي.
3- المطلوبون.
وأنا سأناقش هذه الأطراف بقدر ما يسمح لي المجال.
السلطة الحكومية وإداراتها وأجهزة الأمن
السلطة الحكومية، ليست مقصرة فحسب بالنسبة لطرابلس، بل هناك قناعة عند الكثيرين، بأن هناك شرائح في النظام، تعمل بجهد لدعم مثل هذه الظاهرة وتغذيتها. ويقول أصحاب هذه القناعة ان هناك سياسة دائمة ومستمرة في لبنان ضد طرابلس، هذه السياسة تتمثل في حرمان منظم لطرابلس ومنعها من كل تطور: 
– الدولة لا تقوم بأي مشروع في طرابلس والمشاريع الموجودة تُجمد بسياسة رهيبة فيها نزعة التآمر.
– الدولة في عهد الاستقلال كله لم تقم بأي مشروع مفيد لمدينة طرابلس: المعرض (دخل السنة 15 للبدء في بنائه)، المرفأ مهمل إهمالاً مقصوداً، المحجر الصحي أكله الصدأ.
– الدولة، أو أجهزة فيها، تتقصد سرقة طرابلس وافقارها، ويذكرون تدعيماً لهذا الرأي، ان الاستملاكات في طرابلس يدفع فيها أقل مما يدفع في أي منطقة من لبنان: في بساتين طرابلس يُدفع ثمن المتر 15 – 18 ل.ل. في حين انه في الطريق بين طورزا واهدن يُدفع 70- 75 ل.ل. وبالطبع هذه سرقة منظمة للثروة الطرابلسية.
– كافة المؤسسات الرسمية في طرابلس تُهمل والقرارات الأساسية تؤخذ في بيروت، بشكل ان المركزية تزداد يوماً بعد يوم بدلاً من ان تأخذ الدولة بسياسة اللامركزية لتنمية المناطق وتطويرها.
وهناك قناعة ان الدور الوطني والتقدمي لطرابلس داخل لبنان هو سبب من اسباب الحرمان، بل هو من أهم هذه الأسباب، وان السلطة تريد ان يفلت حبل الأمن في طرابلس، لأن ذلك يُعطل دور هذه المدينة ويحبط نشاط أبنائها، وإلاّ لماذا كلما ازداد النشاط النضالي في طرابلس تُخلق دولة جديدة للمطلوبين.
فبقيام دولة المطلوبين توقف النضال الشعبي من أجل العيش والكرامة. وخلال فترة السبعة أشهر الأخيرة، تجمدت كافة النشاطات الشعبية.. بل انعدمت.. بتأثير هذا الكابوس.
بات واضحاً ان هناك مؤامرة تستهدف لبنان بأسره، وما حدث في طرابلس صورة عنها، هذه المؤامرة ترتبط بمخططات أجنبية غايتها إنهاك الشعب في لبنان وفرض الرعب والخوف عليه، بحيث يتعطل دوره، وتضعف إمكانياته لمواجهة ما يستهدف القضية الفلسطينية والأمة العربية بأسرها.. وخذ مثلاً ما حدث في خلال السنة الماضية نتيجة مسلسل القتل وما حدث في طرابلس والهرمل، والجنوب السائب بشكل مرعب.
من جهة اخرى، هناك انعدام للثقة بين الدولة والمواطنين في لبنان بأسره، وهذه الثقة المفقودة ظاهرة في طرابلس بصورة جلية. فكل موظف يأتي إلى طرابلس، وخاصة إذا كان في سلك القضاء أو الأمن، يعتبر نفسه قد اضطهد وأرسل إلى مدينة الشقاء والتعب.وبهذه النفسية يبدأ الموظف تعامله مع المواطنين، وبالطبع هناك ضحايا كثيرة نتيجة هذه النظرة، وبالتالي مزيد من فقدان الثقة وتعميق للهوة القائمة بين المواطنين والدولة.
وليس غريباً اعتبار أن قليلاً من الطرابلسيين إن لم أقل انه لا أحد من الطرابلسيين يشعر ان هذه الدولة دولته وان هذا الحكم حكم مقبول منه.
هذا الواقع الذي يعرفه الجميع، هو نتيجة وليس سبباً، اما السبب فهو تركيبة النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الطائفي في لبنان.. وان حالة فقدان الثقة سيفاقمها الزمن، حتى الانفجار،،
إذا كان الواقع في طرابس على هذا النحو، فليس غريباً ان يحدث في طرابلس دولة للمطلوبين.. بل الغريب ان لا يحدث.
لكن هناك اسئلة ما زالت بلا اجابات، وهي التالية:
– لماذا لم تسعَ الدولة إلى إعتقال المطلوبين منذ سبعة أشهر، أي قبل الجرائم التي ارتكبت؟
– هل ان السلطة لم تكن تدخل إلى الأحياء الداخلية قبل السبعة أشهر الأخيرة؟
قطعاً كلا.. فالسلطة لم تغب عن الأحياء الداخلية إلاّ حين كانت هي تريد ان تغيب لسبب أو لآخر؟
– هل ان الشعب كان مع المطلوبين؟
وهل كان الشعب هو من يمنع السلطة من الدخول؟؟
طبعاً لا!!
– من اين كان يصل السلاح والمال لهذه المجموعة، وهل كانت الدولة عاجزة عن تطويق مصادر السلاح والمال وهي مصادر بحكم طبيعتها، خارج الأسواق الداخلية.. بل هل كشفت السلطة هذه المصادر؟؟
– المطلوبون أحرقوا، خلال السبعة أشهر، من الرصاص والقنابل ما يزيد ثمنه عن مليون ليرة لبنانية، وبالطبع ليس من فرد واحد قادر على تأمين هذا الخرطوش وهذا السلاح، فكيف كان يدخل إلى المدينة الداخلية؟ وما هي المسارب التي كانت تستعمل؟ ولماذا لم تُقطع عن المطلوبين الإمدادات من خرطوش وسلاح؟
– ألم يكن تهاون السلطة جزءاً من خطة ونظرة.. إلى تلك الأحداث بل وقبول بها؟
ان ابناء طرابلس، وهم يدركون معنى التحرك العسكري الأخير ويؤيدونه بتحفظ، هذا التحفظ ناشىء عن بقاء هذا التحرك ضمن غايته ومهمته فقط.
ويعلمون أيضاً أنهم دفعوا ثمن تهاون السلطة كثيراً من مالهم وكرامتهم وسمعتهم في لبنان وكافة البلاد العربية.
وهذا تشويه لنضالهم وبطولاتهم وتضحياتهم من اجل لبنان والتقدم العربي.
( في الحلقة المقبلة: مسؤولية الشعب الطرابلسي من جهة والمطلوبين من جهة أخرى)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.