القصة الكاملة لـ «دولة المطلوبـين» في طرابلس سنة 1974 (4)
… إنها طرابلس وعلاقتها الملتبسة بـ «الدولة»، منذ نشوء الجمهورية اللبنانية، عندما صار العصيان جزءاً من هويتها، وصارت المدينة بدورها صندوق بريد سياسياً أو أمنياً يستخدمه من يستغلون مشاعر الرفض والغضب الممزوجة بالقهر والحرمان، لتنبت كل بضع من السنوات في أسواقها الداخلية ومناطقها الشعبية «دولة مطلوبين» من هنا و«دولة مطلوبين» من هناك. وما أشبه ما حدث في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بما حدث في السنوات الثلاث الماضية في هذه المدينة .
في الاعداد الثلاثة الماضية نشرت «التمدن»، ثلاث حلقات عن قصة «دولة المطلوبين» («دولة القدور»)، مستندةً الى ملف كامل نشرته «التمدن» في عدد خاص في شباط 1975، علماً أن «دولة المطلوبين» كان قد أطلقها أحمد القدور بعد اتهامه بقتل الطالب محمد خالد بحوش في 18/3/1974، الى أن قضت الدولة اللبنانية على هذه «الظاهرة» في 5/1/1975.
في الاعداد االسابقة نشرنا مشهدية دخول «الدولة» الى الأسواق، ومن هم «المطلوبون»، وما أبرز الأحداث التي حصلت خلال «حكم» «دولة القدور» الذي امتد لأكثر من تسعة أشهر، وماذا جرى في المدينة القديمة، وماذا كان على الدولة أن تفعل كي لا تتجدد «دولة المطلوبين»، ومسؤولية السلطة الحكومية بكافة إداراتها وأجهزة الأمن فيها. في هذا العدد ننشر الحلقة الرابعة التي نتابع فيها سرد احداث تلك الفترة، اضافة الىالجزء المتعلق بمسؤولية الشعب الطرابلسي، من جهة، والمطلوبين من جهة أخرى. وفي حلقة الاسبوع المقبل: ماذا قال النائب السابق الدكتور عبد المجيد الرافعي عن هذه الظاهرة؟
شريط الأحداث
∎ 29/12/1974 اعتقال ونفي للشائعات
أعلنت دولة المطلوبين انها اعتقلت شخصين قاما بسرقة محلات جسر اللحامين. هذا ونفى أحمد القدور ما تردد من شائعات عن تهديدات وجهت إلى المطاعم والملاهي التي ستقيم حفلات بمناسبة عيد رأس السنة.
∎ 30/12/1974 قتيل واحتجاج
قتل علي عبدالرزاق برصاص رجال الأمن خلال الليل أثناء إطلاق الرصاص ابتهاجاً بوداع عام 1974.
وفي الصباح قطع المواطنون في منطقة التبانة الطريق استنكاراً وأطلقوا رصاصاً غزيراً.
∎ 3/1/1975 فقأوا عينه
قام عدد من المطلوبين بإطلاق الرصاص على رِجل إسماعيل بقسماطي وبفقء عين شقيقه غسان لأنهما لم يذعنا لأمرهم بإنهاء عمل زوجة مواطن مصري كان قد استنجد بهم.
∎ 4/1/1975 ملثمون..!
أصيب محمد علي أحمد برادعي بطلق في قدمه وجَّهه إليه ملثمون في الأسواق الداخلية.
∎ 5/1/1975 ساعة الصفر!
في ساعات الفجر الأولى بدأ العد العكسي لإنهاء دولة المطلوبين إذ باشرت قوات مشتركة من الدرك والجيش والمغاوير زحفها حثيثاً نحو مكامن الخطر.. وللمرة الأولى في تاريخ طرابلس تدخل قوات السلطة تلك المعاقل الطبيعية المميزة بدهاء مشيديها من المماليك. وقد دخلت قوات «الإحتلال» من أربعة منافذ في طلعة الرفاعية، السويقة، الدفتردار، النوري، وقد جابهتها مقاومة طفيفة من «حرس المطلوبين» ثم اشتدت بعدما أستفاق المطلوبون فوقع اشتباكان، الأول قرب الحمام الجديد، والثاني في الرفاعية. وقد أصيب في الاشتباك الأول أربعة عناصر من الجيش والدرك بينهم ضابط برتبة نقيب، عندما انفجرت بالقرب منه متفجرة من الديناميت، محشوة بالمسامير. أما الاشتباك الثاني فقد أعطبت فيه ملالة بعد إصابتها بقذيفة أر. بي. جي كما أصيب جندي بجروح طفيفة. ردت قوات الأمن بتفجير المتراس الذي انطلقت منه القذيفة.
وفي محلة السويقة وقعت مناوشات طفيفة، تمكنت بعدها القوات المشتركة من السيطرة على الأسواق وقامت بعملية تمشيط للأزقة والزواريب، بحثاً عن المطلوبين. وعند مداهمة منزل زعيم المطلوبين عثرت قوات الأمن على المطلوب محمود الحنش مصاباً بجروح في رجليه، كما اعتقلت ثلاث فتيات.
تابعت القوات انتشارها في الأسواق الداخلية وهي تذيع بواسطة مكبرات الصوت بياناً بمنع التجول وتحدد الهدف من حملتها، وتسعى في الوقت ذاته لاكتشاف مجاهل الدهاليز والمنافذ إليها للعثور على المطلوبين الرئيسيين.
في الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر ألقى مسلح متفجرة على عناصر من فرقة الطوارىء في محلة «الدبابسة» فقتل العريف الدركي محمد حسين ناصر الدين وأصيب المغوار علي حرب بجروح طفيفة. فقامت القوات المهاجمة بمحاصرة المحلة المذكورة، وبدأت عملية تفريغ للبنايات من ساكنيها على أمل العثور على المطلوبين.
تم اعتقال سبعة مطلوبين، كما تم اكتشاف جثة الدركي المغوار محمد الرفاعي مشوهة داخل الأسواق القديمة. واستمر حظر التجول، وقطع التيار الكهربائي وتعطيل الهاتف.
∎ 7/1/1975 لا تقربوا النوافذ!..
قُتل الفتى محمد أكرم الإمام برصاص رجال الأمن بينما كان يقفل نافذة منزله في ساحة الدفتردار. هذا وأسفر التفتيش عن مصادرة أسلحة حربية وذخيرة واعتقال عدد من المطلوبين.
كما انتشرت شائعات عن فرار كبار المطلوبين.
∎ 8/1/1975 تأكد فرار المطلوبين
دوى انفجار داخل الأسواق تبعه رشق من كلاشينكوف فاندفعت قوات الأمن وحاصرت مكان الحادث واعتقلت أحد المطلوبين الذي أعترف بأنه أنذر أحمد القدور ورفاقه بمداهمة قوى السلطة للأسواق.
∎ 9/1/1975 الرجل الثاني
تم إعتقال «جنرال المطلوبين» فيصل الأطرش متوارياً في منطقة التبانة، وقد حلق شاربيه. قال الأطرش انه كان خارج الأسواق عندما اقتحمتها القوات المشتركة. وقد كشف الأطرش عن أعمال مثيرة كان يرتكبها المطلوبون.
∎ 10/1/1975 «هزّ البلد بليرة»
أعلنت السلطة عن اكتشافها لمنظمة اسمها «نسور الليل» وشعارها «هز البلد بليرة» تعمل تحت أمرة القدور مباشرة. كما انتقلت حملة المطاردة إلى عكار بعد تأكد فرار المطلوبين.
∎ 11/1/1975 ظهور المطلوبين
في الرابعة بعد الظهر شاهدت دورية من درك عكار أربعة من المطلوبين على مسافة نصف كلم. إلاّ انها لم تتمكن من تحديد هوياتهم، فاتصلت لاسلكياً بقيادة المنطقة وطلبت نجدة عسكرية. وصودف مرور دورية من المفرزة الجنائية فانضمت إلى حملة مطاردة المطلوبين الذين فتحوا النار على رجال الأمن. واستمرت المطاردة إلى ان حلّ الليل مع وصول الشاحنات العسكرية فانتشر مغاوير الجيش والدرك بشكل حزام حول تلة النبي دنون التي كان المطلوبون يتجهون نحوها. وتولت طوافة عسكرية إنزال مغاوير آخرين على ضفة نهر موسى لإحكام طوق الحصار. غير ان حلول الظلام حال دون نجاح المطاردة.
وفي طرابلس اطلق مسلحون النار على غصوب جميل الحميصي في محلة التبانة فأصيب برصاصة في رجله.
واستمرت حملة تطهير الأسواق القديمة من العناصر التي كانت تعمل مع القدور وجماعته وأوقف عدد من المشبوهين.
∎ 12/1/1975 القبض على «وزير الدفاع»
مع ساعات الفجر مشَّط المغاوير المنطقة المحاصرة فلم يعثروا على أثر للمطلوبين. فأُمرت القوة بالانسحاب وأعيدت إلى طرابلس. غير انه في ساعة متأخرة من الليل تمكنت القوة التي اتجهت نحو بلدة قبعيت في عكار برئاسة بدري الغزال من تحديد مكان المطلوبين والقبض على أحمد جمعة المسلماني بعدما انفصل عن رفاقه لتأمين الطعام فدخل منزل رقيب في الدرك فقبض على المسلماني وتمكن رفيقه خلدون المصري من الفرار.
∎ 13/1/1975 غموض..!
كان الغموض لا يزال يكتنف تحركات المطلوبين غير ان أحد الرعاة أفاد أنه شاهد سبعة من المطلوبين في محلة رأس الشير باتجاه بلدة القطين.
فتحركت القوة الموجودة في مخفر درك جيرون إلى المنطقة التي حددها الراعي وأدركت المطلوبين وفتحت النار عليهم فهرب السبعة وبقي رجل طاعن في السن أفاد أنه رافقهم كدليل بعد تهديده وإغرائه بالمال.
وفي ساعة متأخرة من الليل كان مغاوير الجيش والدرك يحاصرون أحد المطلوبين الرئيسيين، خلدون المصري، الذي انفصل ليل الأحد – الاثنين عن رفاقه مع أحمد جمعة مسلماني، في غابة كثيفة تقع في مثلث جبرايل – حرار.
أما المطلوبون الخمسة الآخرون فلم يُعثر لهم على أثر بعد انفصال المصري والمسلماني عنهم.
كيف خرجوا من الأسواق الداخلية؟
قال المسلماني في إفادته ان قادة دولة المطلوبين انتقلوا من الحمام الجديد – ليل تلقيهم الإنذار – إلى محلة العوينات حيث اعتصموا بعض الوقت ثم انتقلوا إلى محلة قبر الزيني والخناق فبساتين السقي الغربي عبر المجارير ثم اخذوا خط سكة الحديد حتى وصلوا إلى التبانة فدخلوا منزل إبراهيم الخولي حيث حلقوا ذقونهم واستحموا وأكلوا وناموا بعض الوقت ثم طلبوا سيارة نقلتهم إلى نهر البارد ثم إلى بلدة مشحة في عكار حيث باتوا ليلتين ثم إلى الضنية وباتوا ليلة قبل ان يسلكوا طريق جيرون – رحبة.
∎ 14/1/1975 ظهور القدور في طرابلس واعتقال ثلاثة مطاردين
كانت عمليات المطاردة تشمل ثلاثة مناطق هي طرابلس – الضنية – عكار، عندما تم القبض على أحد المطلوبين الرئيسيين سمير عبد السيد في سير الضنية، كما أوقف في طرابلس محمد بشير رمضون. وفي قرية المحمرة، قرب العبدة، استسلم خلدون المصري.
وفجأة أسرعت القوات المشتركة إلى محلة المنكوبين، وطوق المكان المحدد بناء لإخبارية عاجلة.
وبعد عملية تفتيش واسعة عثر على معطف وكوفيتين للقدور، لفّ بها أربعة رشاشات كلاشينكوف وبندقية سيمينوف، ملقاة على «سفرة» الدرج المؤدي إلى منزل الشيخ رؤوف العمري إلاّ ان القدور ورفاقه كانوا خارج الطوق، هذا ما أدلى به سائق مرسيدس تولى نقلهم إلى محلة الملولة قرب معمل الزجاج.
∎ 15/1/1975 السقوط في الفخ..!
في ساعات الصباح الأولى تمكن رجال المباحث من كشف «الولد» الذي كلفه القدور بإحضار الطعام، فحدد مخبأ المطلوبين في أحد بساتين الليمون ملك الحجي المؤجر لمحمود شرشرور من سكان البداوي. وعلى الفور اتصلوا بقيادة الحملة التي وجهت إلى المكان المحدد قوات كبيرة التفت بشكل دائرة واسعة تحيط منطقة «السقي الأوسط» بكاملها، مستعينة بالطوافات والكلاب البوليسية.
فسقط في الحصار عبدالغني كمون، الذي أصابه الرصاص وهو يحاول المقاومة وقد تردَّد فيما بعد أنه قتل «بسنكة» أحد المغاوير الذي غرزها في بطنه في المستشفى، والبير حلو الذي أصيب برصاصة في ظهره. في هذا الوقت كانت كومة من القش تخفي مظهر الشامي الذي استسلم فور الكشف عنه.
وبدأت رقعة الحصار تضيق، والطوافات تلف وتلف، وقرب محلة «رأس البرج» نبح الكلب الأسود «ثابر» وانتصب فوق مجرى إحدى السواقي، وكان الجنود قد تجاوزوها، فارتدّوا نحوها وإذ بزعيم المطلوبين أحمد القدور يقف مستسلماً.
كي لا تتجدد «دولة المطلوبين» (2)
في العدد الخاص الذي أصدرته «التمدن» في شباط 1975، والذي تضمن ملفاً كاملاً عن ظاهرة «دولة المطلوبين» كتب المحامي حسين ضناوي نصاً بعنوان «كي لا تتجدد دولة المطلوبين». في العدد الماضي نشرنا، من هذا النص، الجزء المتعلق بمسؤولية السلطة الحكومية بكافة إداراتها وأجهزة الأمن فيها، وفي ما يلي ننشر، الجزء الثاني والأخير، وهو المتعلق بمسؤولية الشعب الطرابلسي، من جهة، والمطلوبين من جهة أخرى:
مسؤولية الشعب الطرابلسي قيادةً ومواطنين
1- المستوى القيادي:
في معرض البحث عن حل لأزمة «دولة المطلوبين» أُثيرت اسئلة كثيرة عن دور القيادات الشعبية والسياسية في طرابلس..
أين هي؟؟ لماذا لم تتحرك؟؟ وهل ان تحركها بمستوى الأزمة الخطيرة والفاجعة؟؟ ما السر في هذا الصمت؟؟
وكانت تساؤلات الناس في محلها.. فهم في حالة رعب، وعلى القادة ان يبحثوا عن حل!!
هل بحث القادة في طرابلس عن حل؟؟ بل ماذا فعلوا؟؟
يجب ان تُقسم القيادات.. إلى قيادات يمينية محافظة، وإلى قيادات تقدمية، وتُحلل مواقف كل من هذه القيادات.
∎ رغم تمسكها بالنظام القائم، وجدت القوى اليمينية – المعارضة للحكم – في اضطراب أمن طرابلس، فرصتها الذهبية في:
أولاً: إظهار عجز الدولة وشرشحة الحكم.
ثانياً: تعطيل النضال التقدمي بحكم سيطرة «المطلوبين» على الأسواق الداخلية وهي مركز التحرك الشعبي.
ثالثاُ: عزت تردي الأوضاع الاقتصادية واضطراب حبل الأمن إلى كونها خارج الحكم، لتوهم الجماهير ان «اليسار» الذي تصدى للقيادة السياسية لا يملك الكفاءة.
رابعاً: ركبت موجة الاستياء العام في محاولة لتحقيق حلمها الكبير بالإجهاز على «المدّ التقدمي» من خلال النيل من قياداته وتشويه سمعتها، وبالتالي فتح المجال أمام اليمين لاستعادة قواعده.
لهذه الأسباب بقيت القيادات اليمينية صامتة صمت أبي الهول عن الأحداث، ولم تحاول ان تتحرك رغم حجمها السياسي اللبناني الكبير. وبهذا مارست واقعياً صمتاً متواطئاً مع السلطة ومع مخطط التخريب على هذه المدينة.
∎ القيادات اليسارية التقدمية كانت تتحسس مخاطر نمو وضع المطلوبين وتجمعهم وكانت تسعى لفهم المخطط الذي كان يُنَفَّذ في طرابلس فهي تُدرك بوعيها وبالمعلومات المتوافرة لديها ان هناك دعماً خارجياً وسياسة تنفذ، وكانت تسعى لحل هذه المشكلة بالإتصال بالسلطة والضغط عليها، ولكن هذه القيادات كانت تجد السلطة غير راغبة في إنهاء هذه الأزمة بل كانت تربط أي حل بفرض سيطرتها على الأحياء الداخلية من المدينة.
ولقد توصلت هذه القيادات إلى تحليل يقول إن القصد من تقوية المطلوبين والتساهل معهم هو العمل على السيطرة الكاملة على الأحياء الداخلية وجعلهم ستاراً وسبباً لهذه السيطرة، بغية ضرب أي تحرك شعبي ونضالي في هذه الأحياء.
وكانت هذه القيادات ترى، إنطلاقاً من عدم الثقة بالسلطة وغاياتها والمخططات التي تنفذها، ان المطلوبين وسيلة بيد السلطة لقهر المدينة، ومن هنا نبع موقف القوى الوطنية بمعارضة دخول أجهزة السلطة بصورة مكثفة إلى الأحياء الداخلية. وكان هناك خوف من ان تقوم السلطة، بحجة المطلوبين، بجمع السلاح الوطني والتقدمي، وزج القوى الوطنية في معركة لا تريدها ولا تجد مبرراً لها.
فالقوى الوطنية والتقدمية كانت في أزمة، فهي ضد – وبحزم – ما يحدث في طرابلس على أيدي المطلوبين، وهي ضد موقف السلطة اللامبالي.. ولكنها في نفس الوقت ضد دخول الأحياء الداخلية بكثافة عسكرية تتحول عن غايتها.
وإنني أجزم ان هذا الموقف، الذي بدا في الفترة السابقة وكأنه غير مفهوم، قد لعب دوراً هاماً في إنقاذ طرابلس.. لأنه جعل السلطة مدركة لمخاطر تحويل أهداف الحملة من حملة ضد المجرمين إلى حملة ضد المواطنين الذين يحوزون اسلحة.. وبالطبع هذا الموقف خدم طرابلس، لأنه منع انتشار القتال وحمى الشعب والسلطة من معركة غير منطقية وغير مبررة وغير مشروعة.
1- المستوى الشعبي:
أما المواطنون، بكافة فئاتهم، تجاراً وعمالاً ومثقفين. فكانوا يعانون الخوف حقاً، فلقد شعروا ان الدولة لن تفعل شيئاً في المدى المنظور، وان سلطان المطلوبين أخذ يمتد، وان إرهابهم المجنون انتشر، فعانت طرابلس نوعاً من الخوف والرعب لا مثيل له.
المواطن المثقف لم يعد يتكلم عن الموضوع إلاّ داخل البيوت المغلقة. والتجار أصبحوا، إن تكلموا جاءهم التهديد، أو مورست عليهم عملية الضرب والإهانة والابتزاز..
حقاً كانت طرابلس تعاني.. ولأول مرة عرفت طعم الخوف.. اصبح الخوف في كل مكان. ولهذا كانوا يطالبون بحل، وكان طلبهم عنيفاً وبمرارة، ولكنه صامت، مخنوق.
مسؤولية المطلوبين
أقول جازماً، ان المطلوبين، بشكل من الأشكال، ضحايا.. رغم انهم مجرمون.
ان كل انسان معرض لأن يرتكب جريمة، ولكن العقاب هو الجزاء الذي يمنعه من التمادي في الجريمة ويحمي المجتمع من مخاطر المجرم.
فإذا وجد المجرم ان لا عقوبة، وانه قادر ان يغير وان يعزز ويكرم وتكتب عنه التحقيقات الصحفية والتصريحات وتصبح صورة على مغلفات المجلات الملونة.. هذا المجرم.. لا بد ان يشعر وكأنه مهم ومقبول اجتماعياً.. بل وكأنه قائد وزعيم.. وبالتالي يدخل في دوامة الجريمة، واحدة توصل إلى أخرى.. وسلسلة لا تنتهي، بحكم وضعه وظروفه.
وإني لأضرب مثلاً أحمد القدور.. هذا الشخص.. اتُّهم بجريمة قتل في منطقة المنية.. الإثبات ليس كافياً ولو قبضت عليه الدولة لكان من الممكن ان تكون عقوبته مخففة ان لم يصدر حكم ببراءته للشك.. حين تقاعست الدولة عن القيام بواجبها، ودخل الأحياء الشعبية، وزُوِّد بالسلاح والمال.. بدأ مسلسل إجرامه.. هذا القسم من الإجرام ساهمت به الدولة. وكل من ساعد القدور.. بحيث أصبح غارقاً في بحر من الدماء.
وهكذا لو استعرضنا بقية المطلوبين، بل هناك من لم يكن مطلوباً أصلاً ولكن إهمال الأوضاع من قبل السلطة، والتلذذ بصورة القوة والجبروت جعله ينضم إلى المطلوبين حتى أصبح مطلوباً وقاتلاً ومجرماً.
هذه هي لوحة الأحداث، بعد تحليل عناصرها..
وعلى أساس هذه اللوحة يجب ان نبني مستقبلنا، هذا «المستقبل» الذي لا أتفاءل به كثيراً لأن أسباب الجريمة في نظام كالنظام اللبناني لا يمكن ان تزول أو تخف، بل ستزداد وتتسع، ومظاهر الهدوء في هذه الفترة ستبقى مجرد مرحلة..
فما دام هناك غلاء وبطالة ومحسوبية والتستر على المجرمين، وما دام هناك سياسات إجرامية بحق طرابلس تُنفذ وتُدعم، فإن المجتمع الطرابلسي مضطر ان يفرز، عناصر جديدة، تحمل راية دولة لمطلوبين جدد، في عهد.. جديد..
ولهذا علينا في طرابلس ان نعمل متساندين، لمنع هذه الظاهرة ان تتجدد ولا يكون ذلك إلاّ بالنضال ضد أسباب الجريمة، التي هي الفقر والبطالة والجهل والتفريط بالقانون.