طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

القصة الكاملة لـ «دولة المطلوبـين» في طرابلس سنة 1974 (6)

… إنها طرابلس وعلاقتها الملتبسة بـ «الدولة»، منذ نشوء الجمهورية اللبنانية، عندما صار العصيان جزءاً من هويتها، وصارت المدينة بدورها صندوق بريد سياسياً أو أمنياً يستخدمه من يستغلون مشاعر الرفض والغضب الممزوجة بالقهر والحرمان، لتنبت كل بضع من السنوات في أسواقها الداخلية ومناطقها الشعبية «دولة مطلوبين» من هنا و«دولة مطلوبين» من هناك. وما أشبه ما حدث في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بما حدث في السنوات الثلاث الماضية في هذه المدينة.
في الاعداد الخمسة الماضية نشرت «التمدن»، خمس حلقات عن قصة «دولة المطلوبين» («دولة القدور»)، مستندةً الى ملف كامل نشرته «التمدن» في عدد خاص في شباط 1975، علماً أن «دولة المطلوبين» كان قد أطلقها أحمد القدور بعد اتهامه بقتل الطالب محمد خالد بحوش في 18/3/1974، الى أن قضت الدولة اللبنانية على هذه «الظاهرة» في 5/1/1975.
في الاعداد السابقة نشرنا مشهدية دخول «الدولة» الى الأسواق، ومن هم «المطلوبون»، وما أبرز الأحداث التي حصلت خلال «حكم» «دولة القدور» الذي امتد لأكثر من تسعة أشهر، وماذا جرى في المدينة القديمة، وماذا كان على الدولة أن تفعل كي لا تتجدد «دولة المطلوبين»، ومسؤولية السلطة الحكومية بكافة إداراتها وأجهزة الأمن فيها، اضافة الى مسؤولية الشعب الطرابلسي، من جهة، والمطلوبين من جهة أخرى؟
كذلك نشرنا تفاصيل زيارة رئيس الحكومة، وقتها، رشيد الصلح لطرابلس في 12/11/1974، بعد 12 يوماً من تشكيله لحكومته (31/10/1974) وقبل حوالي السبعة أسابيع من قيام الدولة بمهاجمة «دولة المطلوبين» (5/1/1975)، ونشرنا أيضاً تفاصيل ما جرى في الاجتماع الذي عُقد في دار بلدية طرابلس بحضور النائب، وقتها، عبدالمجيد الرافعي وممثلين عن الأحزاب التقدمية والهيئات الاقتصادية ورئيس البلدية، وقتها، محمد مسقاوي، وقد حصل هذا الاجتماع في 13/11/1974 بعد يوم واحد من زيارة الصلح وبطلب منه، ونشرنا أيضاً ما قاله النائب، وقتها، الدكتور عبدالمجيد الرافعي عن هذه الظاهرة، في شباط 1975 بعد حوالي الشهر من سقوط القدور ومجموعته.
في هذا العدد ننشر تحقيقاً أجراه الزميل الراحل نجيب اسكندر بعد زيارة قام بها لـ «دولة المطلوبين» وإجرائه مقابلة مع أحمد القدور، كذلك ننشر تقاصيل معركة جرت بين الدولة و«دولة المطلوبين» ليل 7/11/1974، وننشر مجريات ليلة رعب أخرى حدثت ليل 31 تشرين الأول ــ فجر 1 تشرين الثاني 1974.
(الرجاء مراجعة الـ PDF على الصفحتين 4 و5)

رئيس «دولة» المطلوبين يروي قصته ورفاقه

«نريد ان نعامل كما عاملت الدولة اخواننا في زغرتا»

في 10/11/1974نشرت جريدة «النهار» تحقيقاً أعدّه الزميل الراحل نجيب اسكندر، بعد زيارة قام بها لـ «دولة المطلوبين» وإجرائه مقابلة مع أحمد القدور، في ما يلي ننشر هذا التحقيق:
كان الوضع أمس هادئاً في الأسواق الداخلية وفتحت أبواب المتاجر وعادت الحركة إلى طبيعتها.
دخلنا معاقل المطلوبين واستمعنا مفصلاً إلى المطلوبين الذين تحدث باسمهم زعيمهم أحمد القدور، وقبل أن أدخل ما يسمى منزله الخالي إلاّ من سريرين وثلاث كراس وطاولة أعطاني بياناً أعده للتوزيع بتوقيع «المقاومة الشعبية في طرابلس» يشكر فيه أبناء المدينة الذين دعموا قضيته وجاء فيه: «ان قضيتنا كانت دوماً قضية كل مواطن يرفض الظلم والحرمان والتعسف ويحتج بل ويثور على سياسة صيف وشتاء على سطح واحد. وان استهتار بعض الأجهزة كاد يعرض مدينتنا المجاهدة لأزمة خطيرة التفاعلات إلاّ أن تحرك السيد راشد المقدم واخوته ممارسين الضغوط وواضعين المسؤولين في شخص الرئيس الصلح أمام مسؤولياتهم أبعد شبح المأساة عن المدينة ولا يسعنا إلاّ شكر الذين أبوا إلاّ ان يحملوا السلاح ويلتحموا معنا بمؤاخاة نفخر بها جميعاً ونعاهد طرابلس على ان نبقى دوماً جنوداً نقدم التضحيات مهما غلت».
أول ما سألت القدور ورفاقه ما هو جوابكم على رسل التسويات والوساطات فقال: «الأستاذ راشد المقدم ورفاقه نزلوا إلى بيروت وتفاهموا مع المسؤولين وأوقفوا اطلاق النار، ونحن لا نتأثر برأي أحد سواهم وانهم هم من يرتبون المسألة».
قصة الأسواق
الأسواق الداخلية في طرابلس هي مصدر كل أنواع حركات الرفض واللجوء والاعتصام والعصيان والمقاومة ضد «الأعداء» ومنهم السلطة وذلك لمختلف الأسباب، سياسية كانت أم عقائدية أم خاصة.
والأسواق هي في الواقع حصن طبيعي مؤلف من مجموعات من الأبنية القديمة السميكة الجدران، تتوزع على الطريقة التركية وتفصلها أسواق ضيقة وأزقة متعرجة وسراديب مسقوفة وممرات تحت القناطر وتحت الأرض وهي لذلك مركز مثالي لحرب الشوارع بالنسبة للمقاومين.
يضاف إلى ذلك استعداد تلقائي لدى فريق كبير من سكان هذه الأحياء لنصرة حركات الرفض والمقاومة. وغالبية هؤلاء السكان من الفقراء والبقية من ذوي الدخل المحدود الذين لم يوفر لهم مزيد من العلم والثقافة وهم من الفئة التي تنال بقايا الخدمات الاجتماعية والصحية، ويدخل في نصيبها، إذا كان لها نصيب، فتات ضئيل من نعم الدولة وخدماتها.
ولهذه الأسباب، وأسباب تاريخية أخرى، عاشت هذه الأسواق عالماً خاصاً له قوانينه شبه الذاتية وتقاليده ومقاييسه منذ الأتراك مروراً بالفرنسيين حتى الاستقلال وأحداث 1958.
وككل مدينة أو بلدة أو قرية في لبنان، فرزت الأحداث المهمة مقاتلين بارزين وخلفت الحوادث الفردية قتلة يتحولون بعد أيام إلى قبضايات وزعماء محلة ورؤساء حي ومهيمنين على سوق.
هذه في اختصار قصة الأحياء الداخلية في طرابلس التي شهدت الكثير من الأحداث وعرفت عدداً ضخماً من المقاتلين الأشداء والقباضيات والقتلة وأكثرهم لجأ إليها هرباً من العدالة.
وآخر الهاربين الذي تحول إلى قائد لمجموعة جديدة من المطلوبين هو أحمد القدور المعروف بـ «أبو محمود»، وقد أطلقت عليه خلال الحوادث المتكررة في الأسواق الداخلية منذ أشهر ألقاب عدة منها «رئيس دولة المطلوبين» و«ريس قبضايات الأحياء الداخلية».
وجاءت الأحداث الأخيرة تسلط عليه الأضواء في شكل مثير وهو ربما أول «رئيس حكومة» لدولة المطلوبين والقبضايات ساهم في صنع ما سمي «حرب طرابلس».
«أبو محمود» من حارة البرانية
وُلد أبو محمود في حارة البرانية في المدينة القديمة قبل 25 عاماً، ولما شبّ وجد نفسه عضواً في «دولة المطلوبين» في الأسواق الداخلية في العام 1970 وكان رئيسها يومذاك أحمد شحيطة وقد لجأ إلى هناك بعدما قُتل شقيقه عمر القدور على يد رجال الدرك فاشترك في حوادث عدة صدرت على أثرها ثماني مذكرات بتوقيفه. وسلم نفسه مع من سلم في ذلك الحين بعدما وعدوا بسجن مدته ثلاثة أشهر، فإذا بالسجن يطول إلى سنتين ونصف السنة.
وهنا يقول أحمد في مرارة:
«يقولون انني لا أسلم نفسي. اني أنفخ اللبن لأن الحليب كاويني. الوعود التي يأتي بها رسل الزعماء والوسطاء لحل مشكلتنا تذكرني بوعود الماضي. فمن يدخل سجون الدولة، هذه الأمكنة الكريهة التي يعامل فيها الإنسان كالحيوان، لا يخرج منها ببساطة. فإذا وعدت الآن بسنة سجناً فأنا أعرف اني ورفاقي سوف لن نخرج قبل 15 سنة».
جزمات الدرك وفلقاتهم
وأضاف وهو يروي قصته ببساطة من أولها: «بعد خروجي من السجن حاولت أن أكون أدمياً ففتحت مقهى عصرياً في شارع المطران لكنهم لم يتركوني أعيش كسائر الناس. أنا أحلم بأن أتزوج وان يكون لي بيت وأولاد وعمل شريف. لم يطل بنا المقام. كنا 12 شخصاً في سيارتين فوقع معنا حادث في بلدة المنية.. أكثر من واحد أطلق النار فجرح الطالب محمد بحوش. لحقونا واطلقوا علينا النار. رد عليهم من كان معنا فقتل الجريح. بالطبع أنا لم أقتله ولكن انحصرت التهمة فيّ لأني لم أسلم نفسي لخوفي من العودة ولو لمدة اسبوع إلى تسليم نفسي إلى جزمات الدرك وفلقاتهم وشتائمهم وإلى النوم في زرائب الحيوانات التي يدعونها سجوناً.. وصدرت مذكرة التوقيف وطاردني الدرك وتكدست التهم ضدي حتى أصبح كل من يُقتل في طرابلس وقاتله مجهول يحملونني التهمة وليس عندهم سوى أحمد القدور قَتل… أحمد القدور فَعل… أصدروا مذكرات توقيف… أصدرنا… حتى الحادث الأخير قبل الانفجار اتهموني بقتل معن برغشون. أنا وألبير الحلو كنا بعيدين عن المكان وهو حادث فردي. أنا أسألك لماذا أقتل معن برغشون وهو مطلوب مثلنا ونحن نرحب بالمطلوبين المظلومين ونقاسمهم الرغيف والليرة؟».
موارد المطلوبين
∎ من أين مواردكم وكيف تعيشون؟
– أهلنا والأصحاب والمواطنون العاديون الذين يشعرون بالظلم اللاحق بنا يساعدوننا ويقدمون الينا ما نحتاج إليه. نأكل بقسم مما يأتينا ونشتري الأسلحة والذخائر بالقسم الباقي.
∎ من يدعمكم سياسياً؟
– لا أحد، وإن يكن عندنا أصدقاء ومرجع.
∎ يُشاع أنكم تفرضون الخوّة على أصحاب المحلات والتجار؟
– (بانفعال) اسأل أي تاجر تريد. نحن نحمل السلاح للدفاع عن كرامة هذه المدينة ولا يعقل ان نفرض خوة على أحد. انظر كيف نعيش وأين ننام. هل تظهر علينا النعمة؟
∎ ماذا عن علاقتكم بسكان الأحياء؟
– انها جيدة، فنحن نتبادل الضيافة ونعيش بينهم كالأخوة عيشة همشرية وإذا وقع أي خلاف أو مشكل نتدخل ونصلح الأمور حبياً.
∎ أي عملياً أنتم بوليس الأحياء وقضاتها؟
– نحن متواضعون ونعمل ذلك من غير هذه الاعتبارات لأن لنا مونة ومحبة على الجميع.
∎ كيف تتوزعون المهمات وكم عددكم؟
– عددنا نحو 28 مطلوباً. الدرك يقولون اننا 17 أو أقل ولكن نتحول إلى 200 مسلح في حالات معينة ونصبح كما كنا ليلة الخميس – الجمعة 1500 مقاتل. وتأكد اننا نتحاشى إثارة أي حساسيات ضد أحد ففي النهار لا ننقل المعدات الثقيلة (الرشاشات والقنابل والقذائف) بل نحمل المسدسات، وفي الليل يتولى فريق منا الحراسة بالرشاشات والبنادق. الأعتدة الثقيلة نظهرها عندما نحسّ ان الدولة تعد لنا المقالب وتستعد لاقتحام الأسواق.
تفاصيل الحوادث
وهنا روى القدور تفاصيل الحوادث الأخيرة فقال «بدأت عندما أرسل الينا رئيس مخفر التل دورية من الدرك لتقتل رفيقنا مظهر الشامي. فهذا الدركي منذ الحادث الأول بينه وبين مظهر أقسم على ألا يرتاح قبل ان يقتل مظهر. وفي أعياد رمضان أرسل إلينا الدوريات قوصوا علينا وقتلوا رجلاً في بوسطة حمزة. يوم الحادث الأخير كان مظهر يكسدر فجاءت الدورية وأطلقت عليه النار فهبّ الجميع لمعاونته وبدأت نجداتهم تتوالى. ردينا عليهم فوراً وعندما وصلت المصفحات ضربناها وأخرجنا الأعتدة الثقيلة. وبعد ساعة أصبحنا 100 مقاتل. وفي منتصف الليل غدونا ألفاً وزعناهم على طول «الحدود» مع الشوارع الرئيسية كي لا يقتحمونا. أعطبنا لهم مصفحة وأصبنا دولاب مصفحة أخرى. ولم نقتل أحداً. وقع منا جريحان. حصل خوف وإزعاج في البلد ونحن آسفون لذلك. كنا ندافع عن أنفسنا وعن كرامة البلد. نحن نطلب المساواة ونريد أن نُعامَل، وأقول بكل نية حسنة، كما عاملت الدولة اخواننا المطلوبين في زغرتا في شأن الاجراءات في المحاكم. نحن نطالب ولسنا أول من يفعل بتسوية عشائرية. الدولة تدعي اننا قتلنا أشخاصاً ومنا أشخاص قتلوا وجرحوا فلتَسِر علينا الصلحة كما سَرَت على الآخرين، أنا ورفاقي لا نسلم أنفسنا بناء على وعود. أحمد شحيطة سلم نفسه على أمل ان يحبس مدة سنة فحكموه 12 سنة. الدولة يهمها ان تعمل التزامات قرواني لاطعام عدد أكبر من السجناء.
∎ لماذا يشترك معكم هذا العدد من الناس ويعرضون أنفسهم للملاحقة؟
– أسألهم، أنهم يشعرون بالظلم، يعرفون مصير الفقير والممعوس. الدولة لا تعاملهم بالمساواة. كلهم يعرفون ماذا يحدث بالذي يدخل التحقيق. يُداس بين جزمات الدرك والتحري ويطرح في النظارة كالكلب. انهم لا يحترمون الانسان. وكل واحد مجرم وإن يكن بريئاً. ان السجون عندنا تشجع المطلوب لأتفه الأسباب على ان يصير قاتلاً أو مقتولاً وهي أمكنة تنتقم فيها الدولة من الشعب الفقير لأنه يتململ ويتواقح عندما يطالبها بحقوقه ويتظاهر في الشوارع ويتذمر لأنه لا يعيش مرتاحاً أو مكيفاً.
∎ إلى ماذا تطمح في حياتك؟
– أتمنى أن تصبح في لبنان مساواة وعدل وان أعود إلى الحياة الطبيعية ككل الناس.
∎ وشعورك عندما تقرأ الصحف وهي تكتب كل ما يجري؟
– الصحافة صديقة المظلومين وأنا أقرأ ثلاث صحف منها «النهار». وعندما أرى الصحف والعناوين الكبيرة أتساءل لماذا يجري كل ذلك؟
∎ لماذا أعدتم المتاريس مساء الجمعة بعدما أنسحب الدرك؟
– وردتنا اخباريات أن رجال الأمن احتلوا البنايات المواجهة لنا من جديد فأخذنا احتياطنا ثم عدنا ورفعناها بعدما تأكدنا من عدم صحة الإشاعة.
الظلم القاسم المشترك
وحرص احمد القدور على القول انه يتحدث باسمه وباسم رفاقه «لأن الظلم هو القاسم المشترك بينهم».
وقبل أن أغادر الأسواق الداخلية حرص «أبو محمود» على ابلاغي أنهم يرفضون كل الوساطات والتسويات التي قد تؤدي بهم ثانية إلى «سجون التعذيب»
تحولت طرابلس بعد ظهر يوم 7/11/1974 الى ساحة حرب وانتشرت فيها المعركة على طول «حدود» الأسواق الداخلية والساحات المطلة على الشوارع الرئيسية، بين «دولة» المطلوبين ورجال الأمن، وقد استعملت في الاشتباكات كل أنواع الأسلحة والمدافع الرشاشة وقذائف الـ «أر. بي.جي» والقنابل والمتفجرات، فساد الذعر أنحاء المدينة خصوصاً من منطقة الاشتباك التي تضم عدداً كبيراً من المدارس الرسمية والخاصة حيث احتجز ألوف التلاميذ والتلميذات وخرج أباؤهم والأمهات في محاولة يائسة لمرافقتهم إلى منازلهم، فسقطت في هذه المحاولات صبية في الثامنة عشرة ورجل يحاول الفرار في ساحة الكورة عائداً إلى منزله.
واستمرت المعركة حتى ساعة متقدمة من الليل وخلت شوارع طرابلس كلها من المارة وخيم هدوء مخيف كانت تقطعه الانفجارات وأصوات الرشاشات والقذائف التي استهدفت مصفحات الدرك فأصابت احداها محطة للمحروقات وأشعلت فيها النار.
تفاؤل سبق الانفجار
وكان ساد طرابلس جو من التفاؤل في الصباح بعد انتشار خبر مفاده ان قضية المطلوبين أصبحت في طور التصفية وانه تم اتفاق واسطته تجار الأسواق الداخلية على ان يستسلم عدد من المطلوبين إلى العدالة ويغادر الباقون هذه الأسواق وينتهي بذلك مسلس الرعب الذي يعانيه التجار والسكان منذ خمسة أشهر. ولكن في الثانية والنصف بعد الظهر، مرت دورية من الفرقة 18 قرب ساحة النجمة، فأطلق عليها بعض المطلوبين الرصاص، فرد عليهم رجال الدورية بالمثل.
وبعد قليل وصلت إلى المكان ثلاث دوريات أخرى واقتحمت إحداها سوق النوري وتوزع عناصرها في البنايات وامتد اطلاق النار إلى أحياء أخرى.
وفي الثالثة أرسلت مصفحتان، واحدة إلى ساحة الكورة والأخرى إلى شارع العجم قبالة ساحة الدفتردار حيث أقام المطلوبون متراساً من أكياس الرمل، ففتحت المصفحة مدفعها الرشاش في اتجاه المتراس وأصلته وابلاً من نيرانها. وبعدما توقف الرشاش رد المطلوبون بقذائف «آر.بي.جي» فأخطأوا المصفحة وأصابوا محطة شل للمحروقات في شارع العجم، فاشتعلت فيها النار، لكن صاحبها كان قطع التيار الكهربائي منذ بداية الاشتباك عن محطة الضخ، فأمكن السيطرة بسهولة على الحريق.
ضحيتان بريئتان
وأخذت المعركة تمتد إلى الشوارع والساحات المجاورة. وتوالت إمدادات رجال الدرك الذين توزع بعضهم وراء جدران الأبنية المطلة على طلعة الرفاعية، نقطة تمركز المطلوبين، وتسلق بعضهم الآخر سطوح البنايات المشرفة على ساحات النجمة والدفتردار والنوري. وخلال الاشتباكات أصيبت الفتاة رندة أحمد اليسير (18 عاماً) إصابة قاتلة برصاصة طائشة في رأسها، وكانت في شارع القنواتي قرب مدرسة شقيقها. وبعد نصف ساعة كان مصطفى خالد الخالد (45 عاماً) يحاول الفرار إلى منزله في ساحة الكورة فأصيب برصاصة في صدره قضت عليه فوراً.
وعلى الأثر أقفلت المدينة بكاملها حتى الشوارع الرئيسية منها وأغلقت المقاهي والمحلات ودور السينما والصيدليات والأفران.
وتوقفت كل حركة في طرابلس التي بدت عند الغروب مدينة خاوية لجأ أهلوها إلى منازلهم يتسقطون بقلق وخوف آخر أنباء «الجبهة».
لا انسحاب ولا اقتحام
وانعقد مجلس الأمن الفرعي، كالعادة، ودرس الوضع وأجريت اتصالات برئيس الحكومة وزير الداخلية. وفهم ان الأوامر أبقت على الوضع كما هو…. «أبقوا في مراكزكم… ردوا على النار بالمثل… لا انسحاب ولا اقتحام للأسواق».
وفي السادسة مساء دفع بالمغاوير إلى ساحة المعركة وعززت مراكز رجال الأمن ونزلت دوريات من الجيش تجولت في بولفار أبو علي ومنطقتي التبانة والملولة، فيما استمرت المتفجرات وأصوات الرشاشات تهز المدينة وتهز معها أعصاب نصف مليون من الأهالي المذعورين.
معركة مفتعلة
وكان ذكر ان ذهاب الدورية إلى «حدود» الأسواق الداخلية، سببه ان رئيس مخفر درك التل المعاون علي الموسوي الذي يسكن في حي قريب من تلك الأسواق استدعى الدورية بعدما أخبر ان المطلوب الفار مظهر الشامي يتربص به شراً أمام منزله. وكان سبق لمظهر أن أطلق النار على المعاون قبل ثلاثة أشهر في ساحة التل فأخطأه. ولما وصلت الدورية كان ما كان… وقيل ان فريقاً من المطلوبين الذين رفضوا الاستسلام ومنهم مظهر الشامي، تعمدوا إطلاق النار على الدورية لافتعال حادث يعرقل ما اتفق عليه في الصباح لحل أزمة الأسواق الداخلية.

ليلة رعب

لم تنم طرابلس ليلة 31 تشرين الأول 1974، وقد حسب الناس ان جبهة حرب قد اشتعلت في شوارع مدينتهم، إذ لم يتوقف إطلاق الرصاص حتى لاحت خيوط الفجر الأولى، وقد قبع الناس في منازلهم، وتركوا ساحات المدينة يسرح فيها المسلحون يرعبون كل حي!
تلك الليلة كانت اشبه بليلة توقيف مصطفى جمعة.. مع اختلاف بسيط هو انها خلت من الانفجارات باستثناء واحد.
منتصف تلك الليلة.. كان كل شيء هادئاً.. لم تكن تلوح في أفق الأحداث، بادرة معينة توحي بأن أمراً ما سيحدث.. لم يوقف أحد حتى يتخذ كذريعة؟ وفجأة سمع رشق من الرصاص.. حصل هذا قبيل منتصف الليل واشتعلت السماء بنوع جديد من الرصاص الخطاط الذي يشق السماء بخط طويل أحمر.
واتضح ان مسلحين انتشروا في المناطق التالية: القبة، التبانة، النجمة، التل، كانوا وراء ليلة الرعب.
وخلال السمفونية المرعبة، دوى انفجار، تبين انه صادر من مجرى نهر أبو علي.
ويمكن ترتيب الحوادث وفق تقارير قوى الأمن بالآتي:
1- حوالي الساعة الحادية عشرة من ليل 30 تشرين الأول، تصدى ثلاثة مسلحين. برشاشات كلاشينكوف وملثمين، للمدعو محمد طلال محمود بكور (20 سنة) في محلة النجمة بينما كان يقود سيارة مرسيدس عمومية رقمها 88595 خاصة للسيد محمود المصري من المنية، ومن سكان محلة القبة بطرابلس ،وأنزلوه من السيارة بقوة السلاح واصعدوه بسيارة فيات بيضاء بدون لوحة كانت تقل أحدهم، وأقتادوه مع السيارة إلى الأسواق الداخلية حيث يتواجد المطلوبون الفارون…
وهناك أطلقوا سراحه بعد ان تثبتوا من ان السيارة هي خاصة محمود المصري واحتفظوا بالسيارة. وادعى السائق على السالبين، وقال انه لا يعرف عنهم شيئاً سوى إن لهجتهم طرابلسية!
وفي وقت لاحق أعيدت السيارة لصاحبها بواسطة أبو مراد السماك الذي أقيمت المتاريس في طرابلس قبل شهر من أجل إطلاق سراحه.
اعتداء على سيارة
2- في محلة الدفتردار كان المدعو خليل الخوجا يقود سيارته وهي من نوع رينو فاستوقفه شخص مسلح وأطلق النار عليها بعد ان نزل منها سائقها وقد تخردقت السيارة بالرصاص.
اصابة رجل بشظية
3- وفي محلة الرفاعية كان المدعو عمر البب، يمر هناك فتصدى له مسلح مجهول وأطلق النار بالقرب منه إرهاباً، فأصيب الرجل بشظايا الحجارة في رجله.
4- الساعة 45،13 من يوم 31 تشرين الأول أطلق مسلحون النار على سيارة جيب تابعة لفرقة الطوارىء – 18 – كانت متوقفة أمام ساعة التل. فلم تصب السيارة أو اي أحد من عناصرها بأذى، ولكن مبنى الساعة أصيب ببضعة طلقات.
وذُكر بأن مسلحين تسللوا إلى شارع العجم المطل على ساحتي الحسيني والتل قرب بناية الزهري، حيث أطلقوا الرصاص ثم انسحبوا إلى الداخل. وأصيب مخفر التل بطلقات لم تظهر آثارها لأنها جاءت هامشية.
5- حوالي الثالثة والنصف تقريباً القى مسلحون النار على القسم الغربي – الشرقي من مبنى السراي لكنه لم يصب إذ أتت الرشقات فوقه. وتبين ان مصدر الرصاص هو البساتين الواقعة خلف مسجد أبي بكر الصديق المواجه للسراي.
6- حصل إطلاق رصاص من منطقة القبة باتجاه القلعة والأحياء الداخلية. وردت عناصر الجيش المتواجدة في القلعة على النار بالمثل نحو الاتجاهين. واستغرق تبادل إطلاق الرصاص دقائق ثم توقف.
7- الساعة 30،4 فجراً هدأت الحالة في المدينة وتوقف إطلاق النار.
أما تحليل هذه الحوادث والخلفيات التي تكمن فتسير وراءها حسب اعتقاد الدوائر المطلعة في اتجاهين:
الأول… ان شخصية معينة لم تدخل المعترك السياسي بعد يعتقد انها وراء أحداث ليلة أمس بسبب توقيف ثلاثة أشخاص قبل ثلاثة أيام يتعاونون مع فئة خارجية وقد طلبت هذه الشخصية من أطراف مساعدتها لإحداث بلبلة في المدينة، فرفض طلبها.
الثاني.. جماعة تتعاون مع جهات معروفة أرادت من وراء ليلة الرعب تحقيق هدفين، أولهما التمهيد لاقتحام الأسواق الداخلية بحجة وجود المطلوبين، وبالتالي تفجير الوضع العام في طرابلس. وثانيهما توجيه الاتهام إلى شخصيتين وطنيتين بفرض ضربهما سياسياً والاساءة إليهما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.