طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

«أسطورة» نيماير في طرابلس (الحلقة 1)

من الأعلى للأسفل: أحد جوانب المعرض (رسم «سكتش» – بقلم نيماير)… اماكن السكن الجماعي (رسم «سكتش» – بقلم نيماير)… المدخل الرئيسي (رسم «سكتش» – بقلم نيماير)… الجناح اللبناني (رسم «سكتش» – بقلم نيماير)…. المسرح التجريبي ذو القبة (رسم «سكتش» – بقلم نيماير)
يعتبره بعض رجال السياسة والقرار في طرابلس المشروع «المنحوس»، فيما يرى الآخرون منهم، أنه مشروع اكبر من طرابلس، تم إقراره في غفلة من النشوة الإنمائية للحقبة الشهابية منتصف القرن الماضي.
أما الميليشيات وجيوش الوصاية، إبان الحرب الأهلية التي أحرقت لبنان لأكثر من 15 سنة، فاعتبرته الموقع العسكري الممتاز، لإيواء الآليات وسكن الجنود وساحات التدريب والرماية والسجون والمعتقلات والتصفيات، وهي لم تتوانَ عن نهبه وسرقه وترحيل معظم تجهيزاته القابلة للتفكيك، بدءاً بالمولدات الكهربائية العملاقة، وانتهاءً بكل الأبواب والنوافذ والبلاط ومواد التشطيب وغيرها.
وهو بالنسبة لأهل طرابلس، المشروع الحلم المتعثر، والمرفق المشلول، شأنه شأن سائر المرافق الرئيسية المعطلة في طرابلس والشمال ، حتى أنهم أدرجوه على لائحة «الميم» الملعونة (المرفأ، المصفاة ، المدينة القديمة، المنطقة الإقتصادية الخاصة، المكب، المعرض، الخ…)، وهم برغم الإحساس بعدم إنتمائه لمدينتهم، بسبب ارتباطه بذكريات الحرب كمنطقة عسكرية لأكثر من ربع قرن، وبسبب هذا السور الخرساني الذي يحيط به، وكأنه حرم ثكنة أو مطار أو مؤسسة حكومية أمنية او حي للسفارات، يعتبرونه مرفقاً واعداً للمستقبل .
اما مجالس الإدارة المتعاقبة عليه فكانت ولا تزال تعتبره عبئاً ثقيلاً ومرفقاً معطلاً ومكبلاً بوصاية وزارتي المال والإقتصاد اللتين تُخضعان أي معاملة عادية خاصة به، الى روتين إداري ثقيل ومعقد.
السياح الأجانب والعرب يرونه تحفة معمارية، ومكاناً ساحراً، ومرفقاً واعداً، ويشعرون بالصدمة، بسبب حالة الإهمال والتخلي، وعدم وجود خطة ورؤية لإعادة تشغيله، ومنهم من يعتبر أنه لو كان في أي مكان آخر في لبنان أو المنطقة أو أي بلد آخر، فهو حكماً سيكون بحال أفضل بكثير، وسيشكل محجة للنشاطات السياحية والثقافية والإقتصادية على مدار السنة، وساحة تلاقٍ لأهل المدينة الحاضنة له.
أما في حقيقة الأمر فهو معرض رشيد كرامي الدولي أو ما سُمِّي في القرن الماضي عند إنشائه، معرض لبنان الدولي الدائم في طربلس، وهو في إشغاله حوالي المليون متر مربع من المساحة، بما فيها مواقف لحوالي خمسة آلاف سيارة وطريق دائري بعرض إثنين وثلاثين متراً ومسار طوله ثلاثة كيلومترات، يحتل حوالي ثمانية بالمئة من مساحة وسط مدينة طرابلس.
وهو المساحة البيضاوية الشكل، والوحيدة بهذا الحيز المكاني، التي لم تجتحها مشاريع الضم والفرز العقارية، وغابات الأبنية السكنية الرديئة المستوى معمارياً وإنشائياً .
إنه الرئة والمتنفس والمساحة العامة الواعدة لأهل طرابلس، بما تحتويه من تحف معمارية وحدائق ومروج ومساحات شاسعة بحالة السُبات العميق، تنتظر المشروع الموعود والعصر الذهبي المنشود.
لقد خلّف المعماري البرازيلي الشهير أوسكار نيماير وراءه حلماً كبيراً في طرابلس ، لكن حلمه سرعان ما تحوَّل إلى مساحات وأرض مشاع لمشروع ضخم لم يُستكمل بناؤه وتشغيله بالكامل حتى يومنا هذا، مخلفاً إشكالية كبيرة عجزت عن معالجتها ومقاربتها والتعاطي معها بالطريقة المناسبة عدة أجيال توالت على مجلس إدارته وعلى المجالس الوزارية المتعاقبة ذات الصلة والوصاية.
أوسكار نيماير، أحد أهم رموز الحداثة المعمارية والذي تعتبر تجربته عنواناً لنهاية فترة معمارية مميزة، تسمى حقبة الجيل الثاني من رواد الحداثة في عمارة القرن العشرين، تبخرت مقاصدها الاجتماعية السياسية الراديكالية من التاريخ، استطاع أن يحدث ثورة حقيقية في مفاهيم الإبداع المعماري أدت الى تحول كبير في التصورات والرؤى في هذا المضمار.
ولد أوسكار نيماير (1907- 2012)، في ريو دي جانيرو وانخرط في المجالات السياسية والثقافية المتنوعة، إلى جانب توجهه الابداعي البارز في حقل العمارة. وكان أنهى تحصيله الجامعي عام 1934، في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في ريو. ووقع في بداية حياته الابداعية المعمارية، تحت تأثير مدارس العقلانية و الوظيفية، وتأثر بأفكار وعمارة لوكوربوزييه.
نجح نيماير، في طبيعة اعماله، بتجسيد رؤى فكرية نوعية ضمن تفاصيل التصميم المعماري، وعكس هذا التوجه، في جملة نماذج إبداعية له، منها في ما نراه في تصميم معرض طرابلس الدولي ونسبة التأثيرات الكبيرة لتجربته الرائدة في تصاميم مدينة برازيليا، حيث تمكن من إنجاز تصميم صعب مزج فيه الخطوط المستقيمة وجدران الزجاج إلى جانب المنحنيات والأشكال المتحررة ذات الطابع المستقبلي.
طالما بقي نيماير، المعروف بسيد المنحنيات، يردد، على الدوام، انه استلهم منحنياته من جبال بلاده ونسائها، مروجا لمشهد عن البرازيل يتسم بالتناغم مع المحيط الطبيعي والإنساني، ولطالما كان نيماير شخصية مهمة، لكنها غامضة، وهو ما ميزه عن المعماريين الكبار الذين أصبحوا معروفين ومشهورين في «الأسلوب الدولي في العمارة».
لا تقتصر تصنيفات ووجهات النقاد إزاء أعمال نيماير على الايجابية فقط، إذ يجدون أسلوبه أحياناً يحوز جانباً سلبياً، ويتمثل ذلك في التضحية بوجهة الاستخدام على حساب الشكل و إظهار الجانب الفني وجمالية الكتلة المعمارية.
بالعودة إلى مشروع معرض لبنان الدولي الدائم في طرابلس كما تم تسميته في نهاية خمسينيات القرن الماضي وقبيل إطلاق مسيرة تنفيذه والذي سمي لاحقا بمعرض رشيد كرامي الدولي في التسعينات تخليدا لإسم رئيس الحكومة الراحل الشهيد رشيد كرامي، يعتبر من أبرز إنجازات نيماير غير المعروفة جيداً على صعيد المنظومة المعمارية العالمية كسائر مشاريعه الأخرى المنتشرة حول العالم، لأن منشآته المنتشرة على بقعة مساحتها حوالي المليون متر مربع ، والمكونة من مبانٍ صممت وبنيت في أواسط القرن العشرين، بقيت وصمدت حتى اليوم دون أن يتم تشغيلها حسب الوظائف التي صممت لأجلها لتبقى كمعالم شاهدة على عصرنا الحديث، كمجرد واحة خيالية لمنشآت غير مكتملة من الباطون المسلح منتظرة في حالة من السبات العميق لتواجه مصيرها المجهول.
لقد بدأت الحكاية سنة 1958 عندما كان لبنان ينعم بعصره الذهبي، وخاصة في خريف 1958 حيث تمّ انتخاب الرئيس فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اللبنانية والذي شرع بدوره يعمل على إعادة بناء منظومة الدولة المعاصرة ومأسستها ضمن خطة إنماء متوازنة لتطوير البلد على كافة الصعد السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والسياحية ومواكبة الحداثة والتطور العالمي في أوروبا والغرب.
وفي سياق هذه السياسة الجديدة، اعتبر آنذاك أن بناء معرض دولي ضخم في عاصمة الشمال طرابلس مشروع بالغ الأهمية، لكنه لم ير النور إلا بعد عدة سنوات من المفاوضات تمحورت بشكل أساسي على اختيار الموقع الأنسب للمشروع بالتعاون والتنسيق مع زعماء المدينة وفعالياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمع المدني.
والجدير ذكره في هذا السياق أن فكرة هذا المشروع مستوحاة من صالات العرض الضخمة المتواجدة في العواصم الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن المرافق الخدماتية المسماة «معارض دولية» أو «معارض عالمية» التي انتشرت في عواصم الدول العربية التي كانت قد نالت استقلالها حديثاً في النصف الأول من القرن العشرين، مثل معرض دمشق الدولي في سوريا (1955) ومساحته 230 ألف متر مربع، معرض بغداد الدولي (1956) ومساحته 300 ألف متر مربع، معرض إزمير الدولي في تركيا (1937) ومساحته 460 ألف متر مربع، فبذلك يكون المركز الأول من حيث المساحة على مستوى دول المنطقة من نصيب معرض رشيد كرامي الدولي حيث تناهز مساحته مع الطريق الدائري المحيط به ومواقف السيارات حوالي المليون متر مربع وذلك بعد عدة توسعات متتالية نتجت عن استملاكات عقارات كانت أملاكاً خاصة لأهل المدينة مستخدمة لزراعة أشجار الليمون والبرتقال.
جاء قرار بناء معرض دولي في طرابلس للتركيز على أهمية دور لبنان الأساسي في اقتصاد المنطقة ولوضع نهاية لمركزية بيروت وسيطرتها على كل المشاريع الإنمائية عبر توزيع المرافق الخدماتية الرئيسية على المناطق المحرومة في لبنان.
في العام 1962، وعن عمر ناهز الإثنين وخمسين سنة، تمّ تكليف المعمار البرازيلي الأصل أوسكار نيماير، الذي كان قد أوشك على الإنتهاء من مشروع بناء العاصمة الجديدة للبرازيل ( برازيليا) بناء لطلب الرئيس كوبيتشيك (1956-1961) بالتعاون مع زميله المتخصص في التنظيم المدني ( لوسيو كوستا ) و ( روبرتو بورلي )، بالقيام بوضع التصاميم المعماريّة لما سمي آنذاك (معرض طرابلس الدولي الدائم)، وذلك بناء على طلب الحكومة اللبنانية آنذاك والذي كان من عرابيه الرئيسيين المدير السابق للمعرض اللبناني البرازيلي السيد أمادو شلهوب.
لقد كان ذلك التكليف بالغ الأهمية بالنسبة لنيماير المعتاد على المشاركة في مسابقات معمارية، فكان تكليفاً مباشراً شبيهاً بالذي ناله عندما طلب منه تصميم مدينة برازيليا.
قام نيماير (الذي يعاني من فوبيا الإرتفاعات والأماكن المغلقة والسفر بالطائرات) بزيارة طرابلس عبر البحر وأقام فيها لمدة حوالي الشهرين، قضاها في زيارات ميدانية لموقع المشروع ومختلف مرافق المدينة، ووضع خلالها كافة الرسومات والتصاميم الأوليّة على أرض الواقع.
لقد إستغرق تطوير التصاميم ووضع الدراسات النهائية وملفات التلزيم حوالي الأربع سنوات، خلالها زار نيماير لبنان مرتين، وبدأت ورشة التنفيذ في حوالي سنة 1967 وانتهت بشكل شبه كامل سنة 1974 باستثناء بعض التشطيبات في المسرح الدائري المغلق وصالات المعارض التي توقفت بسبب الحرب الأهلية، مع العلم أن أعمال التنفيذ كانت منقسمة الى عدّة مجموعات مستقلة وسارت على مراحل حسب توفر التمويل.
ومن الجديد ذكره أن نيماير الذي أثار تكليفه المباشر بتصميم هذا المشروع الضخم، حفيظة الكثير من المعماريين اللبنانيين الذين أعربوا عن كفاءتهم التي تخولهم الحصول على تلك الفرصة، كان قد وضع التصاميم المعماريّة الأوليّة والتفصيليّة، لكن المخططات والملفات التنفيذية والإشراف والتنفيذ كان من نصيب مكاتب وشركات إستشارية وشركات مقاولات لبنانيّة رائدة، تشهد على كفاءتها جودة المباني التي لا تزال صامدة حتى يومنا هذا برغم غياب الصيانة لعقود من الزمن ورغم كونها من الباطون المسلّح المحاذي للساحل البحري وكل ما يشكل ذلك من عوامل مناخية قاسية تصعب مقاومتها في ظل غياب الصيانة الدورية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.