طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

أسطورة نيماير في طرابلس (6)

من الأعلى يميناً: أثناء تحضير القوالب الخشبية للقبة الخرسانية في صورة نادرة من أرشيف الدكتور نزيه طالب، ماخوذة في نهاية ستينيات القرن الماضي….. عمارة مستقبلية منذ منتصف القرن العشرين…. المسافة القريبة من المدخل الشمالي للمعرض تساعد على تشغيل المسرح
لقد قال المعمار الراحل أوسكار نيماير جملته الشهيرة في مطلع ستينات القرن الماضي، خلال قيامه بتصميم منشآت معرض لبنان الدولي الدائم في طرابلس، وذلك بعدما تم إعتماد الموقع النهائي للمعرض ( الموقع الحالي ) بين المدينة القديمة ومدينة الميناء: «لطرابلس قلبان: المدينة القديمة الملتفة حول القلعة الأثرية، والميناء. مشروع المعرض سيخلق نواة ثالثة…»
the old city that wrap around the historic citadel and the port.
“Tripoli has two hearts:
The Fair project will create a third core”.
جاء ذلك بعد التصريح المرفق للأب جوزيف- لويس لوبري والذي قال فيه: « نريد في لبنان معرضاً دو ياً ليضاهي معرضي بغداد ودمشق». وعليه فلقد كان لنظرة أوسكار نيماير الثلاثية، التأثير الكبير في إقتراح كافة الخدمات المرافقة لوظيفة المعرض الدولي تحت بناء الغطاء الكبير (La Grande Couverture)، لتحول المكان إلى منتزه كبير ومساحة عامة، تحتوي خدمات ثقافية وسياحية بإمتياز، تساهم بقوة في خلق تلك النواة الثالثة التي أرادها نيماير ووافقت عليها الحكومة اللبنانية آنذك. وفعلاً، هذا ما احتوته الصفيحة La Plaquette المكونة من منظومة المنشآت التي يجمعها المسطح المائي الكبير. فبعد الحديث على الجناح اللبناني (Pavillion Du Liban) يأتي المسرح الإختباري المجاور له، (Theater Experimental)، وهو المعلم رقم 4 على لائحة المخططات التنفيذية المعدة سنة 1964.
أراد نيماير، المولع أساساً بالقباب الخرسانية، التي رافقت العديد من مشاريعه في برازيليا، أن يغطي هذا المسرح الإستثنائي بواحدة من القباب الأكثر دينامية، والتي تشكل بقطرها البالغ اثنين وستين متراً، وبارتفاع يناهز الأربعة عشر متراً، تحدياً إنشائياً يجعلها واحدة من أصعب المنشآت الخرسانية تصميماً وتنفيذاً في منتصف القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، حيث تبلغ سماكتها عند القاعدة فوق الأرض حوالي الاربعين سنتيمتر وعند القمة حوالي سبعة سنتيمترات فقط!!!…
ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى كفاءة شركة دار الهندسة للإستشارات والتصميم التي وضعت المخططات التنفيذية وقامت بالإشراف على المقاول الرئيسي السيد أميل خلاط والمنتدب من قبله السيد ميلاد الغزال، حيث وبفضل جدارة المقاول وخبرته وتفانيه في التنفيذ في ظل عدم وجود التقنيات التي نملكها اليوم في صناعة البناء بالخرسانة المسلحة لجهة تطور نظام قوالب الصب وإمكانية توريد الباطون الجاهز واستخدام المضخات، فقد اقتصرت التقنيات آنذاك على القوالب التقليدية وصناعة الباطون على أرض الموقع، وما كانت لتصمد هذه القبة طوال تلك العقود من الزمن في ظل الحروب والتعديات وغياب الصيانة التي حوّلت هذا المعلم إلى ما يشبه قصر الأشباح، لولا كفاءة وجودة التصميم والتنفيذ.
أما القدرة الإستيعابية لهذا المسرح الدائري المغلق، فهي لحوالي الألف وإثنين وخمسين متفرجاً موزعين على منصتين متقابلتين تتوسطهما منصة مسرح دائري بقطر حوالي الإثنين وعشرين متراً، يرتفع ويهبط ويدور بواسطة رافعات هيدروليكية، تمكنه من الدوران حسب المشهد المطلوب، وتهبط به نحو الطابق السفلي حيث غرف تغيير الملابس والماكياج للممثلين والعارضين، مع الحمامات التابعة لهم، ثم تعود لترتفع إلى أعلى مستوى، حيث الجمهور الجالس في المدرجات على مقاعد دوارة ايضاً (حسب تصميم نيماير)، وذلك لمحاكاة تجربة المسرح الإختباري، حيث تجري العروض بشكل إستثنائي تملؤه المفاجآت والإثارة.
من الأمور التي تميِّز هذا المعلم أن الأبواب الأربعة التي تحيط به عند القاعدة، ليست سوى أبواب المخارج، أما المدخل فهو عبر الجهة الشرقية، بواسطة درج يؤدي إلى الطابق السفلي مباشرة، حيث قاعة الإستقبال والحمامات العامة الخاصة بالمسرح للرجال والسيدات، وعلى الجهتين اليمنى واليسرى للبهو، ثم يصعد الجمهور إلى الطابق الأرضي مجدداً، ولكن هذه المرة من داخل المبنى بواسطة درج رشيق من الخرسانة المسلحة، ليصل الحاضرون إلى مدرج المسرح ويأخذوا مقاعدهم ليكتشفوا تدريجياً روعة الفراغ الداخلي تحت هذه القبة العملاقة.
كما تمّ لحظ مدخل مقابل، من الجهة الغربية من خارج المبنى، وهو عبارة عن درج يؤدي إلى الطابق السفلي حيث غرف الكواليس المخصصة للفنانين والعارضين والتقنيين، وحيث توجد أيضاً غرف الميكانيك والكهرباء وأنفاق التهوئة تحت الأرض، التي تزود المبنى بالهواء النقي بطريقة هندسية خلاقة ومبتكرة في تلك الحقبة من الزمن، ويمكن مشاهدة ملاقف الهواء في المساحة الخضراء المحيطة بالقبة الخرسانية، مع فتحات التهوئة التي تساعد على شفط الهواء النقي إلى داخل المبنى.
إن معظم من يدخل هذه المعلم حالياً، يلاحظ قوة تردّد الصدى الصوتي لأي حركة، حتى لمجرد تردّد صوت خطى الأرجل أثناء السير بداخله، ما يطرح علامات إستفهام لدى الكثيرين، من فعالية هذه الشكل الهندسي الداخلي مع وظيفة المسرح، وإستحالة القدرة على التحكم بالصوت في ظل هذه التردد الكبير والإستثنائي لصدى الأصوات.
والجواب موجود في داخل المعلم، من خلال تلك القضبان الحديدية المتدلية من سقف القبة، تتأرجح في هذا الفراغ منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماًّ، مقاومةًّ لكل عوامل الزمن والمناخ والهواء المشبع بالملوحة والقادم من البحر من الجهة الجنوبية الغربية، فهذه القضبان قد تركت لتكون العناصر الإنشائية الحاملة للمنصة التقنية، التي كانت ستُعَلَّق عند وسط هذا الفراغ الداخلي على شكل حلقة دائرية كبيرة مفتوحة من الوسط (Donut)، لتطل على منصة المسرح الدائرية من الأعلى مع وجود ممرات تقنية للفريق التقني العامل في المسرح، بهدف تركيب والتحكم بنظامي الصوت والإضاءة والمؤثرات الخاصة، حيث لحظ في أسفلها أيضاً كواسر للصوت، كمعالجة لضبط الترددات والصدى داخل هذا المعلم الدائري، مع العلم أن تجهيز المدرجات بالكراسي والسجاد للممرات والأرضيات مع وجود الناس في الداخل، أمور تساهم كثيراً في تخفيف الصدى الموجود حالياً.
هذا ويندرج هذا المعلم تحت لائحة المباني غير المنتهية في منظومة منشآت معرض رشيد كرامي الدولي، حيث توقفت الأعمال فيه مطلع السبعينات، أولاً لعدم توفر التمويل اللازم، وثانياً بسبب إندلاع الحرب الأهلية في شهر نيسان سنة 1975.
وكما لمعظم منشآت المعرض من تأثّرات وإيحاءات وتشابه مع معالم أخرى في برازيليا من تصميم الراحل العملاق نيماير، كذلك الأمر بالنسبة لتصميم المسرح الإختباري في معرض طرابلس، حيث يكمن التشابه الملحوظ مع تصميم القبة في حديقة الإيبيرا بويرا (IBERA PUERA) المنفذة في نهاية اربعينات القرن الماضي (1947)، وهما تتميَّزان بذات درجة الميول، حيث ترى الاطفال في طرابلس وبرازيليا يصعدون على ظهر القبتين بسهولة، ولعلها فكرة راودت نيماير وأرادها عن قصد بهدف الإمتاع والتشويق، وأنا شخصياً كالكثير من أبناء طرابلس، كنا ولا زلنا، نعيد هذه التجربة المشوقة المحفوفة بشيء من المغامرة والجهد، الذي يبلغ ذروته عند الوصول إلى القمة وتأمل المشهد البانورامي الساحر من أعلى القبة.
ولقد ذهب نيماير إلى أقصى الحدود في التعاطي مع القباب الخرسانية الرشيقة، حين لحظ قبتين في مبنى الكونغرس الوطني في البرازيل، حيث أتت إحدى القباب مقلوبة رأساً على عقب، في حوار معماري بهلواني جريء، لم يسبقه إليه أحد من المعماريين في التاريخ.
في المحصلة، لا يمكن لوظيفة هذا المعلم إلا أن تكون مسرحاً عاماً، بل مسرح من الطراز الرفيع والإستثنائي، نظراً إلى قدرته الإستيعابية الأعلى في طرابلس والشمال عموماً، وبشكله الدائري الفريد من نوعه في المنطقة، و كتلته المعمارية المكونة من غلافه الخارجي الرشيق، المنفذ بالخرسانة المسلحة بأسلوب الغطاء الخفيف، حيث يلعب حديد التسليح الدور الكامل من الناحية الإنشائية، بينما يقتصر دور الباطون على حماية الحديد فقط لا غير (Voiles Minces)، فهو حتى يومنا هذا، يُعتبر بناؤه تحدياً هندسياً فائق الصعوبة، لجهة تحضير القوالب وعملية التسليح والصبّ، يُضاف إلى ما سبق، ميزة هذا المعلم بقربه من المدخل الثاني لمعرض رشيد كرامي الدولي من الناحية الشمالية، حيث توجد مواقف لحوالي الألفي سيارة، لا تبعد عن مدخل هذا المسرح أكثر من خمسين متراً تقريباً، ما يساهم في تشغيله دونما الحاجة إلى استخدام المدخل الرئيسي، البعيد نسبياً.
لكن وبرغم كل هذه المميزات التي سبق ذكرها، ولعل أهمها توقيع «بيكاسو العمارة» أوسكار نيماير، الحائز على أعلى الأوسمة والجوائز العالمية، والذي صُنِّفت كل أعماله من المباني التي صمّمها، على لائحة التراث العالمي للأونيسكو، وبرغم عدم وجود مسرح في طرابلس، حتى بأقل من ثلث القدرة الإستيعابية لهذا المعلم، فإنه لم تبادر أية جهة مستثمرة، أو مرجعية سياسية أو إقتصادية، إلى تبنّي هذا المعلم بشكل منفصل، وتأهيله وتجهيزه وتشغيله، بما يخدم أهل هذه المدينة، وهي مبادرة لا تتطلب أكثر من مجهود بسيط، لتنهض طرابلس من كبوتها وتتمركز على منصة المدن الأخرى المزدهرة كمدينة جبيل على سبيل المثال لا الحصر، التي قال لي رئيس بلديتها الصديق العزيز زياد حواط، خلال مؤتمر السياحة لدول حوض المتوسط (2014 Meditour )، الذي انعقد في مدينة برشلونة، وذلك خلال مداخلة قمت بها من خلال تمثيلي لتجمع رجال الأعمال في طرابلس والشمال، عرضت فيها تقريراً موجزاً بالصور والأرقام، معظم مقدرات مدينة طرابلس السياحية والإقتصادية وأهمها المدينة القديمة ومعرض رشيد كرامي الدولي، وخاطبني مع شيء من الدهشة، متسائلاً عن حقيقة الصور التي عرضتها عن منشآت المعرض إذا ما كانت صوراً مركبة بواسطة الكمبيوتر أم أنها حقيقية، كونه لم يزر المعرض من قبل، وكانت المفاجأة أكبر عندما أكدت له أنها صور أصلية من أرض الواقع، وقد قمت بالتقاطها بواسطة عدستي المتواضعة دونما أي تصحيح أو تعديل، وهنا كان تصريحه العفوي وخلال وجوده على منصة المؤتمر، وبصوت خافت: «لو كان هذا المعلم في مدينة جبيل، لكان واحة من الفرح والنشاطات والمهرجانات الثقافية على مدى الأيام والأسابيع والشهور»، وختم ممازحاً باللغة العامية «يا ريت تعطونا المعرض ويكون بمدينة جبيل بدل طرابلس»، من شدة حماسته وحزنه على الإهمال الذي يتعرض له من قبل القيِّمين والفعاليات في المدينة برغم أهميته وميزاته الفريدة من نوعها في لبنان والمنطقة بل وفي العالم أجمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.