إصدارات في طرابلس: كلية دير الحميراء الوطنية
صدر في طرابلس كتاب «صفحات من تاريخ كلية دير الحميراء الوطنية (مار جرجس 1920 – 1926)», وقد جمع هذه الصفحات ونسّقها الأب نايف إبراهيم اسطفان. في هذه الصفحة ننشر بعضاً مما جار في هذا الكتاب, علماً أنه قد طُبع في «دار البلاد للطباعة والإعلام في الشمال», والإخراج قامت به شركة «إمبرس».
والأب نايف ابراهيم اسطفان, ولد سنة 1950 في حكر الشيخطابا – عكار. تلقى علومه الإبتدائية والتكميلية في مدرسة منيارة الرسمية. التحق سنة 1966 بدار المعلمين والمعلمات في زحلة وتخرّج سنة 1970 وظلّ في سلك التعليم حتى بلوغه سن التقاعد سنة 2014. سيم كاهناً في 24 تموز سنة 1977. وخدم في عدة رعايا تابعة لأبرشية عكار الأرثوذكسية وتوابعها. عمل منذ سيامته كاهناً على البحث في تاريخ أبرشيات الكرسي الأنطاكي. عمل في مركز الدراسات الأرثوذكسية وتسلَّم لمدة ثلاثة عقود رئاسة ديوان مطرانية عكار الأرثوذكسية كما وكان مستشاراً في المحكمة الروحية في الأبرشية. عضو اتحاد الكتّاب اللبنانيين. حائز على وسام المعلم من الدرجة الثالثة.
في هذه الصفحة ننشر مقتطفات من تقديم الكتاب ومقدمته, والنبذة التي وردت فيه عن دير الحميراء واستنتاجات الكاتب.
تضمن الكتاب الاستنتاجات التالية: بحسب عدة مصادر مختلفة، واستناداً إلى المعلومات التي وردت في كتاب «أديار الكرسي الأنطاكي» عن الحركة التعليمية في دير القديس جاورجيوس الحميراء في النصف الأول من القرن العشرين يتبيّن ما يلي:
ان الحركة التعليمية مرَّت بأربع مراحل وهي:
المرحلة الأولى: امتدت المدرسة منذ تأسيسها في 7/8/1913 واستمرت عدة أشهر، ثم توقفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 واستمر توقّفها حتى سنة 1920.
المرحلة الثانية: امتدت من 14/8/1920 حتى السنة الدراسية 1925/1926 وهي المرحلة الذهبية حيث بلغت المدرسة أوج عطائها.
المرحلة الثالثة: امتدت من سنة 1927 حتى سنة 1934 وقد تراجعت المدرسة واقتصرت على عدد قليل من التلاميذ وثلاثة معلمين فقط.
المرحلة الرابعة: امتدت من سنة 1935 حتى سنة 1954، وتحوّلت إلى مدرسة اكليريكية تضمّ بضعة تلاميذ يحصّلون شهادة إعداد كهنة تؤهلهم لخدمة الكهنوت.
وبالعودة إلى أساس البحث، والمقصود به في هذه الدراسة، هو المرحلة الثانية، والتي امتدت من 14/8/1920 حتى سنة 1926 حيث عُرِفت المدرسة بـ «كلية دير الحميراء الوطنية» والتي ورد ذكرها في المخطوط العائد لمديرها الدكتور الياس عبيد. حيث كانت تضم إلى جانب رئيس الدير والمدير، ثمانية معلمين. والذين استطاعوا بفضل جهودهم الجبارة وتضحياتهم الكبيرة أن يرفعوا من شأن المدرسة التي أصبحت منارةً في رحاب الأبرشية.
«كل ما لا يُكتب لا قيمة له»
(جزء من تقديم الكتاب)
في البدء كان الكلمة، والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا. هذا ما أرَّخ له الكتّاب الإنجيليون في أناجيلهم الأربعة، ولنتأمّل لو لم يكتب الإنجيليون عن السيّد المسيح له المجد، فكيف كنا سنعرف عنه، ما صنعه من الخلاص، وما هي الحوادث والعجائب التي عبَّر بها. فصدق من قال «كل ما لا يُكتب لا قيمة له»، ولكن حتى لو كُتبت الكتب، ونُشرت الصحف فكيف سيعرفون إن لم يتعلموا القراءة والكتابة.
هذا ما وَعَتْهُ الكنيسة منذ أزمنتها الرسولية، وأسّس الرسول المصطفى بولص مدرستين، واحدة في افسس، وواحدة في كورنثوس، وحاول أن يؤسّس واحدة في أثينا، ولكن الأثينائيين أحبطوا المحاولة بتصرفاتهم، وسارت على ذلك كنيسة انطاكية أيضاً منذ سنوات التأسيس، واشتهرت كنيستها بطريقة لاهوتية «علم الكلام» خاصة. ودُعيت بالمدرسة الأنطاكية، تفريقاً لها عن المدرسة الاسكندرانية الرمزيّة، فمدرسة انطاكية كانت تعتمد على الواقعية والتفسير اللغوي والتاريخي.
ولما عصفت الرياح بالبطريركية الأنطاكية بعصورٍ مختلفة، ونتيجة للحروب الكثيرة والتي دمَّرت المنطقة كما في أيامنا، انكفأت المدارس في الأديار، وكانت تتنقّل من مكان إلى آخر.
في العصر العربي الراشدي والأموي والعباسي، نعمت المدارس الانطاكية، والتي بلغت أكثر من خمسٍ وستين مدرسة، تعطي كلّ علوم ذلك العصر، وتبوأ منها الكثيرون أهم المراكز في الدولة العباسية، وأهمهم أسرة بختيشوع الطبية من مدرسة جنديسابور. وبعد أن وقع العرب مسلمون ومسيحيون في قبضة الأمم الغريبة عن أُمَّتنا، استُهلكت الحضارة وعاشت على فُتات علوم العمارة والدّين فقط.
المتروبوليت باسيليوس منصور
الحياة الثقافية في الكرسي الأنطاكي
(جزء من مقدمة الكتاب)
كانت المرة الأولى التي سمعت بها، عن «مدرسة دير الحميراء الوطنية»، منذ عقدٍ من الزمن، يوم زرتُ دير القديس جاورجيوس الحميراء في وادي النصارى، بهدف البحث عن «رعايا أبرشية عكار الأرثوذكسية»، في القسم السوري.
(…) أثناء جولتي في رعايا الوادي سائلاً، مستفسراً، باحثاً ومفتّشاً، تعرَّفتُ على عددٍ من المسنين الذين نافت أعمارُهم على التسعين، وقد تلقّوا علومهم في مدرسة الدير، وكانوا أثناء حديثهم عنها يظهرون براعةً في الأجوبة، وفطنةً لا حدود لها، لقد افاضوا في الحديث عن الدير ومدرسته، وذكروا بعضاً من اسماء رفاقهم الذين تبوأوا أعلى المناصب في لبنان وسوريا، وقد حفظتُ بعضاً من تلك الأسماء، ومرَّت الأيام، دون أن أُكمل بحثي عن الرعايا في القسم السوري، لأنني شُغِلْتُ عنه بعدَّة أبحاثٍ أخرى، لقد أمهلته دون أن أُهملَه، وانتقل بعدها إلى رحمة ربه في 3/6/2008 المثلث الرحمات سيادة المتروبوليت بولس بندلي وخَلَفَهُ سيادة المتروبوليت باسيليوس منصور، الذي تمكنت بتوجيهاته أن أضع كتابي الأخير «الحقائق الجليّة في الوثائق البطريركية» وسبق لسيادته أن أعطاني «طرس بركة» سنة 2013 لأبحث عن تاريخ الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي في القرن العشرين.
وفي 18/8/2014 قمتُ بمعيّته بزيارة دير القديس جاورجيوس الحميراء، لحضور اجتماع الكهنة، برئاسة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر اليازجي الذي كان في زيارة رعائية لتلك المنطقة، وتطرّق الحديث أثناء الإجتماع إلى دير القديس جاورجيوس ومدرسته، فَعُدْتُ بذاكرتي إلى أولئك الرجال المسنين الذين سبق لهم أن حدّثوني عن المدرسة، والدير، وتاريخ المنطقة، فأيقظ في نفسي حبَّ البحث والكتابة، إلى جانب ذلك ان هذا البحث بالذات يدخل تحت عنوان الحياة الثقافية في الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي في القرن العشرين، وبين هذا وذاك، شدَّني للبحث صاحب الغبطة الذي يعطي قَدْراً للكتاب وقيمةً للكاتب، فاستجمعتُ نفسي وجمعتُ أوراقي، وزادني رغبةً، ما عثرتُ عليه في بيت السيّد اسكندر عبيد في طرابلس، وهو إبن الدير وجارُه، والذي لوالده الدكتور الياس عبيد اليد الطولى في تأسيس المدرسة وإدارتها ونجاحها.
لقد أَسَرَني السيد اسكندر وعائلته بلطفهم وتقديرهم للبحث، وأعطوني ما طلبته منهم بطيبة خاطر، إنه مخطوط تضمّن لمحة عن مدرسة دير الحميراء، كما تضمّن موقف الدكتور الياس عبيد من الأزمة البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية 1931-1932 ووقوفه إلى جانب البطريرك الكسندروس الثالث على الرغم من التمنيات الفرنسية زمن الإنتداب بتأييد البطريرك أرسانيوس حداد، بالإضافة إلى بحث في الخلاف الذي نشب بين الدير وقريتي المشتاية والزويتينة والسّعي لحلِّه، هذا المخطوط يعود للدكتور عبيد، وقد قَصَرْتُ بحثي عن مدرسة دير الحميراء تحديداً. واعتمدتُ رسمياً عنوان الكتاب «كلية دير الحميراء الوطنية» بدل (مدرسة) لأن بذلك إتماماً للغرض.
الأب نايف إبراهيم اسطفان
دير مارجرجس الحميراء
تضمن الكتاب نبذة عن دير مار جرجس الحميراء, جاء فيها:
يقع دير مارجرجس الحميراء البطريركي في وادي النصارى، قضاء تلكلخ بين حمص وطرابلس، قريباً من قلعة الحصن. في وادٍ تحيط به تلال خضراء بجوار نبع الفوار العجيب يرجع عهده إلى القرن السادس، في زمن الامبراطور يوستينيانوس كما تذكر المراجع العربية والأجنبية، بُني على اسم القديس الشهيد جاورجيوس (جرجس عند الطبري) وغير النصارى يدعونه سيّدنا الخضر أبو العباس، والمرجّح ان اسمه الحميرا نسبةً إلى موقع أثري اسمه الحميرا قريب منه. ويرجّح أن يكون موقعاً لقرية قديمة تحمل هذا الإسم نسبةً لإله المطر عند الشعوب القديمة .
ويُرجع بعض الدارسين لفظة (حميراء) إلى الكلمة اليونانية (خوميروس) التي تعني «السيد». وورد في أحد المراجع، «الحميراء»: قد يكون الإسم عربياً ومعناه (حمّى رديئة، أو إمرأة شقراء من غير الجنس العربي، ولكننا نشكّ في كونه عربياً) وإذا عُدنا إلى جذر: حُمَّر له معانٍ مختلفة.
أ- التخمر.
ب- الحمّر (الإسفلت) والطين والملاط.
ج- التكويم والتعريم.
د- اللون الأحمر.
هـ- اسم الحيوان: الحمار، فبأيها سمّي المكان؟ نحن نفّضل المخمّر وأن نرى في الإسم اللفظ الآرامي Hamira: «القوية، الشديدة الصلبة» بالعودة إلى النشرة فقد جاء «ان الدير شيِّد على أنقاض هيكل وثني للإله (هومرا) هذا الهيكل الذي أصبح أساساً للدير المعروف حالياً بالدير القديم (وهو الطابق الأرضي الأول) وإن صحّ هذا القول فإن الدير القديم يكون قد بني على أنقاض هيكل (هوميرا) في القرن السادس الميلادي، وهو معاصر لدير صيدنايا البطريركي، وقد رجّح بعضهم ان الأمبراطور يوستنيانوس البيزنطي هو الذي بنى الديرين معاً.
وهناك احتمال بأن تسمية الدير بـ (الحميراء) معربة عن الكلمة اليونانية (موييرس) وتعني (الأخوية الروحية ذات الحياة المشتركة). بني هذا الدير على الطريق الروماني العام المؤدي من السواحل البحرية إلى البلاد الداخلية، كحمص وتدمر وعبر الصحراء.
وقد كان في بادىء الأمر كهفاً، تحيط به بعض القلالي البسيطة للرهبان. وله واجهة جنوبية بيزنطية فيها مدخله الرئيسي، الباب والأعتاب منحوتة من الحجر الأسود الصلب، ارتفاعه 93 سم وعرضه 64 سنتم، وإلى جانبه، نافذة حجرية كان إخوة الدير يناولون منها الخبز والطعام لأبناء السبيل والمحتاجين، وكان أحد الرهبان المثقفين يطلّ من هذه النافذة على قوافل المجتمعين ليعلّمهم قواعد الدّين والآداب.
ثم بُني الطابق الثاني في زمن الصليبيين في القرن الثاني عشر، بوابته تتجه نحو الغرب بارتفاع الأولى وعرضها، وهي كذلك من الحجر الأسود وعليها رسم صليب، ويُسمّى هذا الباب (باب الفرس) لأن الفرس تدخل منه على صغره، وفي هذا الطابق كنيسة تُسمّى القديمة بالنسبة إلى الجديدة، في الطابق الثالث، يقوم سقفها على عقدٍ معلّق في الجدران، وفيها أيقونسطاس خشبي غاية في الدقّة والإتقان، وفيه مجموعة رائعة من الأيقونات التي تنتمي إلى مدرسة عربية في رسم الأيقونات، من أول القرن الثامن ورثت الفن البيزنطي وأعطته سمات محلية خاصة، وقد استهوى هذا الفن هواة الأيقونات فغامرت عصابة منهم بسرقة أيقونة عُرِضَ فيها مبلغ 25 ألف جنيه استرليني، وعثر عليها البوليس الدولي، وأعيدت إلى الدير منذ بضعة أعوام، أما الطابق الثالث الحديث، ففيه كنيسة فخمة من القرن التاسع عشر، لها قبة عالية تُرى من بعيد، وفيها ايقونسطاس خشبي بديع النقش يُعدُّ من أهم الأيقونسطاسات الخشبية في كنائس سوريا ولبنان. وقد دام صنعه مدة أربعةً وثلاثين عاماً، وأيقوناته من صنع مدرسة القدس في القرن التاسع عشر.
ويوجد في خزانة الدير أوانٍ كنسية من كؤوسٍ وصوانٍ وصلبان وغيرها. فريدة في العالم المسيحي. كما توجد أيضاً مخطوطات ووثائق أخرى وكُتُب تواصي وامتيازات من العهد العربي، وهدايا من ملوك الأرمن، والكرج، والروس. والدير مسجّل بين آثار سوريا المهمة، ويشكل مع قلعة الحصن مكاناً سياحياً هاماً فضلاً عن قيمته الدينية الخاصة إذ يؤمه الناس من جميع الأديان والطوائف والأجناس، يحملون إليه النذور والهدايا ويُكرّمون عجائب شفيعه.
في الدير نحو من خمسٍ وخمسين غرفة صالحة للسكن، تغصّ بالزائرين مرتين كل عام، في احتفالين كبيرين، الأول في 6/أيار/ عيد مارجرجس، والثاني في 14 أيلول عيد الصليب.