نزلة الرفاعية.. طلعة عبدالمجيد
الوزير رشيد درباس
من «نزلة الرفاعية» كانت طلعة عبدالمجيد الرافعي، الطبيب العائد من لوزان إلى بيت الشيخ محمد الطيب في أبي سمراء ذي الحديقة الصغيرة والأزهار الكثيرة من أبناء وبنات… و… رياحين.
«نزلة الرفاعية» كانت دربه التي يدلف منها إلى عيادته، وإلى «المستشفى الإسلامي»، حيث كان يجسّ المرضى بأنامله المحبة، ويصف الدواء ويعودهم في الليالي بعد أن عدَّل في تعريف الطب كمهنة إنسانية، فشطب كلمة مهنة وأبقى على إلإنسانية، وأضاف عليها عروبة حارة وإيماناً بأمة عربية واحدة…
نزل إلى الناس من «الرفاعية» فرفعه الناس إلى طلعتها
إبن قحٌّ لطبقة متوسطة عميقة الاتصال بما دونها من الطبقات، وثيقة النسب بالعائلات الميسورة، نزل إلى الناس الفقراء من الرفاعية، فرفعه الناس إلى طلعتها، ليطل بعد ذلك على لبنان وعلى العرب نموذجاً للشخص المستقيم، الشجاع، والغيري، والجاهز دائماً لدخول دوائر الخطر…
قّلَّما تحَّلق قوم من مشارب مختلفة حول شخص، كما تحلق أهل طرابلس حول عبدالمجيد، المنافس لرشيد كرامي والمكمل له، في آن، حيث تجلَّى هذا بنتائج انتخابات 1972، إذ أحرز الدكتور عبدالمجيد أعلى الأصوات تعبيراً عن الرغبة بالدم الجديد، فيما نجحت بقية قائمة الرئيس كرامي ممارسة للتمسك بالقواعد والاستقرار، ورغم خلافهما الحاد، كان كل واحد منهما يكن للآخر تقديراً واحتراماً واعترافاً بالدور، تماماً كما كان عبدالمجيد يتبادل المحبة العميقة مع منافسه المرحوم الدكتور أمين الحافظ.
تلك طرابلس ذات الحيوية والوجود الذي لوَّن وجه لبنان والعروبة، وذلكم هو عبدالمجيد المحاط بريادة حسان وعبدالرحمن مولوي، وأناقة وارستقراطية وصلابة فايز سنكري وجهاد كرم، ورصانة الدكتور أحمد بارودي، وصداقة جان عبيد الثمينة، وهدوء وتبصر حسين ضناوي، ودأب وإخلاص هشام إزمرلي، وشجاعة وإقدام رياض ميقاتي وعبدالله الشهال، ومحبة الجيل الجديد الذي خاطبه من القلب فاستحق أن يكون في كل بيت وكل قلب.
لا تفارقه شريكته كأنها الظل والأصل معاً
ورغم ثوريته اللافتة، كان مسكوناً بتقاليد طبقته العميقة، ورب عائلة لبيوت كثيرة، وصاحب بيت محكوم بالتنقل من أبي سمراء إلى بيروت إلى بغداد، إلى باريس، ثم إلى طرابلس في المآل، لا تفارقه شريكته كأنها الظل والأصل معاً، وكأنها الرئة التي تزوده بالأوكسجين كلما قل منسوبه في دمه، وهي بهذا تخطت ليلى العامرية بما لا يُقاس، وهو في هذا أشعر من قيس الملوح، ولو لم يحاول قرض الشعر.
في مجلس العزاء تذكرت قول «بومبيدو» «مات ديغول.. فرنسا أرملة»
في مجلس عزاء النساء، نظرت في عيني السيدة ليلى وبقية العيون، فتذكرت ما قاله «جورج بومبيدو» عند رحيل الجنرال ديغول «مات ديغول.. فرنسا أرملة» لأن الحزن الراقي الذي سكن وجوههن ينمُّ عن هول الرحيل.
منذ أشهر اشتركت في حفل تكريمه في «جامعة العزم» مع الرئيس نجيب ميقاتي والوزير ادمون رزق، وقد حضر إلى الاحتفال وآلام ظهره تُبرِّحه، ومع هذا أبى، عندما جاء دوره للكلام، إلا أن يعتلي المنبر واقفاً، مستعيناً على آلامه بمحبة الحضور الذي ملأ القاعة وفاض منها إلى كل شارع.
ولقد قلت فيه يومها:
«أيها المحتفى به، وقد كنت حفاوة الأجيال، ومقلة الشباب، ودقات قلب القضية، لا نقف اليوم معك لاستذكار التألق الذي آل إلى بهوت، ولا تأسفاً على أيام عزٍّ دحرتها السنوات العجاف المتمادية..».
«لا… لسنا هنا لِنَرثي نضالنا ونبكي تجربتنا، فمثلك لا ينبغي له تقبلُ العزاء…».
وَيْحَ ما نحن فيه اليوم إذ نتقبل فيك العزاء، فتتلاقى وجوه شتّى في قاعة «المسجد المنصوري الكبير»، الذي كانت تلبي فيه الجماهير نداءك انطلاقاً لمظاهرة وطنية أو مطلبية.
وجوه جمعها الحزن العميق على الرفيق، وكذلك غضون السنين والخذلان الذي يفتك بالأمة والأوطان.
يُوَدِّعك أبو أنس، سماحة الشيخ الدكتور مالك، بخطبة مبلَّلة بدموع العاطفة الجمعية التي نظمت الحشد المصلي عليك، والسائر وراء نعشك كأنك تقوده في تظاهرة جديدة، صمت فيها صوتك، وعلت منك التحية كأنك تردد قول الله عز وجل:
«وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ.{
وقلت فيك أيضاً:
«جمعتنا العروبة، فأَنْبَتَتْكَ بساتينُها راية لها ذات عبق ورفيف، وركب العروبيون صهوات مختلفة في سياق الائتلاف ثم جمحت بنا الجياد فضاع الشوط واستبيح الرعيل، كما قال بدوي الجبل، وصار بأسنا بيننا شديداً، فانفتحت الثغرات وتسربت الهجنة إلى عراقة الثغور من خلال الشغور الذي خلّفه تراجع العروبة وتحول القضية إلى طاحونة دموية تضرج الفراتين بسيل قان تكاد تفرغ منه عروق الأمة، فكل حزب بما لديهم فرحون، وكل مذهب يقيم دولته على طَلل… ».
في إستقبالك رفاق لك
اليوم تذهب إلى مقعد صدق ليكون في استقبالك خالد العلي وفؤاد الأدهمي وشيخ العرب وتحسين الأطرش ومحمد ولي الدين وأحمد الصوفي ورشاد عدرة ورفاق لك من «بلاد العُرب أوطاني» وربما تكون فرصة تستعيدون فيها النظر بالتجربة، وربما تكون رسالة توجهونها للرعيل..
أيها العربي اللبناني الطرابلسي العنيد، أكرر لك في الغياب ما قلته لك منذ أشهر:
طرابلس تحتاج إلى أجناد مجنَّدة، لا إلى خُشُبٍ مسنَّدَة.
وإلى أندادك من الرادة كي ينفضوا عن حركتها البلادة.
يا عبد المجيد،
أيها الطيب،
يا ابن الزمان الطيب والناس الطيبين…
اليوم نقول فيك…
هذا رجل مأمون، والسياسة غير مأمونة،
هذا رجل وديع، والسياسة آلت بمعظمها إلى التوحش…
هذا رافعيُّ النضال ورافعته، وكثير من أهل السياسة يتمرغون في الوضاعة.
السلام عليك …
إنك الطيب.. والطيب في لغتنا المحكية هو الذي لا يزل حياً..