طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

عبدالمجيد الرافعي 1927-2017: تاريخ مدينة في تاريخ رجل

كتب صفوح منجد 
باستثناء بعض المقالات الصحافية معه، وهي نادرة، في الصحافة المحلية واللبنانية والعربية، وكذلك في الإذاعات والمحطات التلفزيونية، فالمناضل وهي الكلمة الأحب إلى نفسه، رحمه الله، لم يتم الكشف لغاية اليوم، ما إذا كان قد كتب أو سجل بعض ذكرياته على أهميتها وهو الذي كان شاغل الناس على مختلف طبقاتهم، وعلى امتداد الأقطار العربية، شعبياً وحزبياً، أحبه الفقراء والأودام وأبناء الطبقة الوسطى، ومن الإنسان الأمي وصولاً إلى أساتذة الجامعات والمفكرين و«المنظرين».
وربما في حال تم الكشف لاحقاً عن وجود هذه «المذكرات» فإنه من المؤكد سيكون لها الصدى الكبير نظراً لعلاقة الراحل الكبير الدكتور والنائب والقيادي العربي عبدالمجيد الطيب الرافعي، ودوره في مختلف الأحداث ومفاصل الحياة السياسية التي طبعت عالمنا العربي من منتصف القرن الماضي وحتى الأمس القريب، وهو الذي كان على مقربة بل في داخل هذه الصراعات والتطورات التي عصفت بالعالم العربي وما تزال الأنظمة والأقطار العربية تعاني من تأثيراتها وانعكاساتها إلى اليوم من «سايكس – بيكو» إلى التقسيمات التي تُطبخ في الدوائر الإيرانية الفارسية، مروراً بالقضية الفلسطينية التي كان يسميها، رحمه الله، بأنها «القضية الأساس ولا مستقبل للعرب إلاّ في حال انتصارهم على الصهاينة، أحد فكي «الكماشة» التي تسعى إلى تفكيك العالم العربي».
الإحاطة بمختلف جوانب حياة هذا المناضل دونها صعوبات وتحتاج إلى كتب ومجلدات، وقد لا تتسع لكل مخزونه النضالي والشعبي، ولكل ذلك التاريخ الذي خلّفه وكان نجمه وبطله بل صانعه.
وفي هذه العجالة سأتوقف عند بعض المحطات التي كان لي نصيب في متابعة أدوار من حياة «الرفيق المناضل» إنطلاقاً من أجواء عائلتي ومن ثم من خلال عملي الصحافي، متوقفاً عند أحداث طرابلسية ومعارك انتخابية وصولاً إلى بغداد.
الطبيب الاشتراكي الإنساني
تعود معرفة العائلات الطرابلسية على مختلف انتماءاتها الطبقية والسياسية بالدكتور عبدالمجيد الرافعي إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي، عند عودته من سويسرا حاملاً اختصاصاً في الطب العام وافتتاحه عيادة له في «السرايا القديمة» – عيادة د. عدنان سلطان – في مبنى ما يزال قائماً إلى اليوم، (انظر كتابي «من ذاكرة الطبابة في طرابلس»).
حيث باشر في استقبال مرضاه وكذلك في منزله في أبي سمراء، وسرعان ما عُرف عنه بأنه يحمل «مشاعر إنسانية» ذات خلفية اشتراكية تأثر بها خلال دراسته في أوروبا، وقيل يومها انه من مناصري «المادية التاريخية» أي الماركسية، وهذه الأخيرة لم يؤكدها الرافعي أبداً، بل كانت من «فبركات» القوى السياسية المعادية له، ولكنه انتهج مسلكاً شعبياً في عمله الطبي كان له الصدى الايجابي في الأوساط الشعبية والعائلية ولدى عموم الطرابلسيين.
لقد عُرف عن الرافعي انه لم يتأخر يوماً في زيارة مريض حتى لو كان يسكن في الطوابق العليا، ويومها لم تكن المصاعد قد انتشرت في المدينة، وغالباً ما كان يطبب مجاناً في عيادته وفي منزله بأبي سمراء وفي منازل المرضى ويقدم لهم الدواء مجاناً في حال توفرها داخل حقيبته المهنية، الأمر الذي أسس لعلاقة متينة بينه وبين العائلات الشعبية في كل مناطق المدينة وبصورة خاصة داخل المدينة والأسواق القديمة التي كان يتردد إليها في الليل والنهار يتفقد أهاليها ويَطَّلع على أحوال التجار وأبناء المدينة.
القيادي الثائر
هذا الدور إنسحب أيضاً إلى تلك المرحلة التي اندلعت معها «الثورة الشعبية» في طرابلس والعاصمة والعديد من المدن اللبنانية في العام 1958 ضد حكم الرئيس كميل شمعون الذي كان يسعى إلى تمديد ولايته مدعوماً من حلف المستعمر الإنكليزي تحت إسم «حلف بغداد».
فمنذ اليوم الأول (انظر الملف الكامل الذي اعددته عن ثورة 1958 ونشر في «التمدن» أيار 2008) لاندلاع الثورة تواصلت الاتصالات واللقاءات بين زعماء طرابلس وقياداتها لتدارس الأوضاع المستجدة ومواكبتها بإجراءات وتدابير تنظيمية على مختلف الصعد السياسية والتموينية والمعيشية والصحية ولمتابعة يوميات الثورة ومتطلباتها.
وسرعان ما أدت هذه الاتصالات التي استمرت على مدى الاسبوع الأول من عمر الثورة إلى تشكيل قيادة موحدة للمقاومة الشعبية على رأسها الرئيس رشيد كرامي، رحمه الله، وتضم الدكتور عبدالمجيد الرافعي، طلعت كريم، سهيل بغدادي، فاروق معصراني، أحمد المير، رشيد فهمي كرامي، زيد حمزة، سالم قصقص، ومهمة هذه اللجنة التقرير والتوجيه، ويتبين من أسماء أعضاء اللجنة أنهم يمثلون معظم التوجهات والتنظيمات والحركات العربية واليسارية.
وبرز حينذاك الدور الفاعل للدكتور الرافعي فإلى جانب الطبابة المجانية، كان يقوم بجولات تفقدية إلى «دار العجزة» في أبي سمراء الذي تم تحويله إلى مستشفى ميداني لطبابة ومعالجة الثوار والمصابين.
وفي أعقاب الثورة وقيام حكم جديد برئاسة اللواء فؤاد شهاب، سطع نجم الدكتور الرافعي، بالرغم من محاربة بعض مناصري السلطة السياسية والأمنية له، وتمكن الرافعي من إنشاء سلسلة من المستوصفات الشعبية في مناطق عدة في طرابلس والميناء، إلى جانب المستوصف المركزي في «شارع المصارف» بطرابلس، تلك المقرات التي كان لها الدور البارز في تقديم الطبابة المجانية وتأمين الدواء للفقراء، إضافة إلى قيامها بدور تنموي في المناطق والأحياء الشعبية وملاحقة قضايا الناس ومطالبهم، إلى جانب الدور الأساسي في نشر الأفكار السياسية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي إنتمى إليه الدكتور الرافعي في وقت مبكر، وسرعان ما انتشرت أفكار الحزب وشكل الرافعي قوة سياسية امتد تأثيرها على امتداد الساحة اللبنانية مع استقطاب المزيد من المؤيدين والمناصرين.
المعارك الانتخابية، خسارة وانطفاء فانتصار
تنامت شعبية الرافعي سريعاً واستقطب المناصرين والمؤيدين داخل العائلات الطرابلسية التي كان ولاؤها يتوزع على زعماء وقيادات تلك المرحلة، وبصورة خاصة الرئيس رشيد كرامي وزعماء العائلات والبيوت السياسية والمالية، حتى بات يتقاسم الناخبين ضمن العائلة الواحدة، وإنحاز إليه الشبان والشابات بصورة خاصة، وبينهم شقيقي طلال الذي يصغرني بخمسة أعوام، وشقيقي الآخر وليد الذي يكبرني بخمسة أعوام، على سبيل المثال، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأقرباء والقريبات من أعمام وأخوال وعمات وخالات وأبنائهم وبناتهم.
وفي العام 1960 جرت الانتخابات النيابية الأولى في عهد الرئيس فؤاد شهاب، على خلفية الأحداث اللبنانية والإقليمية التي عصفت بلبنان والمنطقة في العام 1958 وما بعد. وجرت انتخابات مجلس النواب العاشر (1960 – 1964) وفق قانون الانتخابات الذي بات يُعرف من ذلك التاريخ بـ «قانون الستين»، (انظر كتابي «الانتخابات النيابية في طرابلس – الشمال – خلال مئة عام 1908-2009»).
وتم رفع عدد النواب إلى 99 نائباً وكانت حصة طرابلس 5 مقاعد، 4 للسنة ومقعد للأرثوذكس، واعتمد القضاء كدائرة انتخابية.
في تلك الانتخابات شكل كرامي لائحته على النحو التالي: رشيد كرامي، الدكتور هاشم الحسيني، واختار محمد حمزة وهو خصم سابق يتمتع بتأييد شعبي خاصة إبان ثورة 58، كما اختار الدكتور أمين الحافظ إضافة إلى فؤاد البرط.
وترشح عدد من المرشحين المنفردين منهم فواز المقدم، وكذلك فعل الدكتور الرافعي.
ويشير المعاصرون لتلك الفترة ان الرافعي حظي بتأييد عائلي وشعبي واسع وعبرت عن ذلك لقاءات التأييد له في الأحياء الشعبية، منها مهرجان في «بعل الدروايش» في التبانة، وكان أبناء المنطقة من الطائفة العلوية وغالبيتهم من العمال ومن الطبقة الفقيرة، وسمحت لي الفرصة ان أحضر هذا المهرجان.
كما حضرت مهرجاناً آخر أقيم بعد يومين للرئيس رشيد كرامي في المحلة ذاتها، والمفاجأة عند إعلان النتائج ان الرافعي نال من أصوات العلويين أكثر من كرامي على الرغم من ان غالبيتهم كانوا محسوبين سابقاً على كرامي.
مهرجان في 4 صالات في وقت واحد
ويُذكر انه في الأحد الذي سبق إجراء الانتخابات أقيم مهرجان نسائي دعماً للرافعي، في قاعة «سينما الروكسي»، وعندما امتلأت القاعة بالمناصرات في ساعة مبكرة قبل الظهر، تم افتتاح قاعة «سينما الكابيتول» التي سرعان ما امتلأت هي الأخرى بالوفود النسائية وبالمدعوات. مما دفع اللجنة المنظمة إلى استقبال النسوة أيضاً في قاعة «سينما الريفولي». وبعد وقت قصير اضطرت اللجنة إلى تأمين فتح قاعة «سينما أوبرا» للغاية نفسها.
وكان يتوجب على الرافعي وخطباء وشعراء هذا المهرجان الانتقال بين دور السينما الأربع لإلقاء الخطب والكلمات وقصائد التأييد لترشيح الرافعي وانتخابه.
ولكن التدخلات كما يقول أنصار الرافعي والتي مارستها بعض الأجهزة الرسمية آنذاك عملت على إسقاط الرافعي، خلافاً لما كان قد أُعلن عبر الإذاعة الرسمية، وفازت لائحة كرامي بكامل أعضائها.
انتخابات 1964 
آثر الرافعي عدم الترشح في انتخابات العام 1964 التي تميزت بعدم التكافؤ، فمن جهة كان رشيد كرامي زعيماً لبنانياً وعربياً يواجه خصوماً محليين، واللائحة المنافسة ضمت متناقضات ولم تكن قادرة على الاقناع، وفازت لائحة كرامي بكاملها.
انتخابات 1968
جاءت انتخابات عام 1968 بعد حرب حزيران وتميزت هذه المرة بطابع حزبي إلى حد بعيد، فقد شارك فيها ممثلون عن أحزاب: «البعث» و«حركة القوميين العرب»، فكانت معركة الحزبيين بامتياز ضد لائحة كرامي التقليدية، وقد تشكلت لائحة غير مكتملة قوامها: عبدالمجيد الرافعي ومصطفى الصيداوي وعمر عبداللطيف البيسار. كما تقدم للانتخابات سعدالله شعبان وفاروق المقدم وعبدالله البيسار وموريس فاضل، ولم يقبل ترشيح أمين عام «الحزب الشيوعي» نقولا الشاوي لانتمائه إلى حزب غير مرخص، وتشتت المعارضة وعدم قدرتها في تشكيل لائحة موحدة أدى إلى فوز لائحة كرامي مرة أخرى بكاملها.
.. وأخيراً فاز الرافعي
كان الانطباع السائد في انتخابات العام 1972 ان فرص خرق لائحة كرامي قائمة، فتميزت هذه الدورة بكثافة عدد المرشحين وكثافة الحضور الحزبي فقد أجرى كرامي تعديلين في لائحته باستبداله فؤاد البرط بموريس فاضل وسالم كبارة بعبدالغني عبدالوهاب.
وبالمقابل تشكلت لائحتان ذات طابع حزبي الأولى ضمت: عبدالمجيد الرافعي، مصطفى الصيداوي، خالد علوش، أحمد الأحدب، وجبرائيل خلاط.
أما اللائحة الثانية غير المكتملة، فضمت: نقولا الشاوي (وقد تم الترخيص لحزبه الشيوعي)، فاروق المقدم والمحامي رشيد درباس.
إلى جانب عدد من المرشحين المنفردين.
وتمكن الرافعي من خرق لائحة كرامي في حين ان الأصوات كانت متقاربة بين المنافسين على المقعد الأرثوذكسي موريس فاضل الفائز وجبرائيل خلاط.
موقف حاسم من «دولة المطلوبين»
يُسجل للدكتور الرافعي موقفه الحاسم من «دولة المطلوبين» التي نشأت في طرابلس وأشاعت موجة من القلق والإضطراب في المدينة وبصورة خاصة داخل الأسواق القديمة والتجارية، ويمكن القول انه من تلك الفترة أخذت هذه الأسواق بالتراجع اقتصادياً ومعيشياً واجتماعياً، حيث تراجع دورها من جهة، وباتت «معزولة» عن أبناء المناطق الريفية الشمالية الذين كانوا يتدفقون يومياً على المدينة القديمة بأسواقها المختلفة للتبضع وشراء حاجياتهم حتى اليومية.

وذلك بنتيجة الاشتباكات المسلحة داخل هذه الأسواق وأجواء الترهيب والخوات التي فرضها عناصر هذه «الدويلة» التي استقطبت عدداً من المطلوبين من قبل أجهزة الدولة من مرتكبي الجرائم والجنح وأعمال الإخلال بالأمن وإطلاق النار والمتفجرات على العناصر الأمنية وترويع الآمنين.
ويُذكر ان مرات عديدة قصد «قادة» هذه الدويلة الدكتور الرافعي في منزله بأبي سمراء القائم على مطل يُشرف على المقر الذي اتخذته في «مسجد الطحام» في منطقة الحدادين – الدفتردار أكثر المناطق الشعبية ازدحاماً بالسكان، وكان هؤلاء يطالبون الرافعي بأن يقدم لهم الدعم المالي والسلاح ولكنه كان يرفض بإصرار رغم التهديدات وأعمال التهويل بإطلاق النار في محيط منزله.
وطبعاً هذه «الدويلة» تم القضاء على عناصرها ليلة رأس السنة الميلادية 1975، بعد عدة أشهر من أعمالها الإجرامية، وبعض هؤلاء قُتل على الفور أثناء حملة الجيش أو خلال الملاحقات والمداهمات أو جرى اعتقاله.
اندلاع الحرب اللبنانية والدور الانقاذي والإنساني للجان الشعبية
في تلك الفترة وتنفيذاً لقرار من الدكتور الرافعي وقيادة الحزب تم إنشاء «اللجان الشعبية» في مختلف مناطق المدينة لمتابعة أوضاع أبنائها وعائلاتها على مختلف الصعد الحياتية والمعيشية وتأمين حاجياتهم وملاحقة متطلباتهم إلى جانب القضايا المتعلقة بالمرافق العامة وبالكهرباء والمياه وقضايا الغلاء وارتفاع الأقساط المدرسية…
ومع اندلاع أحداث العام 1975 واحتدام الاقتتال والصراع المسلح بين القوى الوطنية واليسارية المدعومة من فصائل الثورة الفلسطينية من جهة وقوى اليمين والتنظيمات المسلحة كالكتائب و«الوطنيون الأحرار» وقوات «الجبهة اللبنانية ومن يرى رأيها» من جهة ثانية.
اشتدت الأزمة داخل مدينة طرابلس والمناطق الشمالية كالضنية وعكار، ونشطت «اللجان الشعبية» في دورها الوطني والانقاذي بقرار من الدكتور عبدالمجيد الرافعي في حين تم تشكيل قوات مسلحة تابعة لحزب البعث العربي الاشتراكي ونشأت قوة مشتركة تضمه إلى جانب «الحزب الشيوعي» و«منظمة العمل الشيوعي» لضبط الأوضاع الأمنية في المدينة، وعُرفت قوات البعث بــ «لانداتها الكحلية» فيما عُرفت القوات الشيوعية بـ «السترات الزرقاء» لعناصرها.
وانتهت مرحلة الاقتتال التي دامت زهاء السنتين بـ «قمة الرياض» ودخول «قوات الردع العربية»، لتشهد المدينة صراعاً دموياً جديداً تمثل بمحالاوت القوات السورية العاملة ضمن إطار قوات الردع العربية التفرد بالسلطة في طرابلس كما في سائر المناطق اللبنانية عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، وهكذا كان، لتستيقظ طرابلس على فصل جديد من «المؤامرة» تجلى في أعمال تصفية القيادات الوطنية وملاحقة مؤيدي الدكتور الرافعي و«حزب البعث»، الأمر الذي دفع بالرافعي إلى مغادرة المدينة من ثم الانتقال إلى بغداد، واشتدت المضايقات والاعتقالات وتوقيف العشرات في «القلعة» وفي المقرات الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري ونُقل بعضهم بل أكثرهم إلى «فرع فلسطين» في العاصمة السورية دمشق وترحيلهم من ثم إلى أشد السجون ظلماً وتعذيباً حيث كانت نهاية حياة الغالبية الساحقة منهم أو خروج بعضهم وهم يعانون شتى أنواع الأمراض من وطأة التعذيب.
ولكن في أواخر السبعينيات ومع التقارب بين نظام الأسد في سوريا وحزب البعث في العراق وتوقف الحملات والمواجهات بينهما، وفي ضوء الاتفاقات بين الطرفين، عاد النائب الرافعي إلى طرابلس ليلقي كلمة عند وصوله إلى أبي سمراء من شرفة منزله عَبَّرَ فيها عن اشتياقه لأهله ولأبناء طرابلس والشمال ولبنان مؤكداً انه كان وسيبقى إلى جانبهم.
وواصل الرافعي نشاطاته في الحدود الدنيا، وعمد إلى إعادة ترميم منزله الذي تعرض للتخريب، ولكن أمراً آخر كان يُعَد للمدينة بُعَيْد الاجتياح الاسرائيلي للجنوب ودخول بيروت (5/6/1982) وانتقال قوات الثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات إلى تونس وعواصم عربية أخرى، وعودة قوات «أبو عمار» إلى البقاع وتوجهه مع ما تبقى من قواته إلى شمال لبنان وتمركزه في طرابلس.
وقام «أبو عمار» بتشجيع ودعم قيام «حركة التوحيد» بحملة ضد كافة المقرات السياسية والحزبية في المدينة بعد ان تمكنت من إنهاء حاجز للتسلط على الناس عُرف بحاجز «أم عبدو» في منطقة القبة، واتخاذه ذريعة للتقرب من أبناء المدينة وإظهاراً لنوايا حسنة.
ولكن سرعان ما تم الانقضاض تباعاً على مقرات:
– حزب البعث: منزل النائب الرافعي.
– «حركة 24 تشرين» بقيادة فاروق المقدم.
– ومن ثم «الحزب الشيوعي اللبناني» في ساحة الكورة بطرابلس، وكذلك في الميناء.
كما تعرضت المدينة إلى حملتي قصف وتدمير:
– الأولى في أواخر العام 1983، حيث عمدت القوات السورية تحت يافطة قوات «أبو موسى» (فتح – الإنتفاضة) المنشقة عن عرفات إلى قصف المدينة مخلفة الدمار وكانت الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات.
أما حملة التدمير الشاملة فقد نفذتها القوات السورية مستعينة ببعض فصائل الأحزاب الموالية لها للخلاص من تنظيم «التوحيد» نفسه بعد إفراغ المدينة من قسم من سكانها وإلحاق الأضرار الجسيمة بالأهالي وببيوتهم وممتلكاتهم ووقوع مئات الضحايا الذين امتلأت بجثثهم أروقة «المستشفى الإسلامي» وبرادات الفاكهة التي تم توقيفها قرب الإسلامي.
ودخلت القوات السورية مجدداً إلى المدينة لتسيطر وتحكم.
ويُذكر ان الرافعي، وقبيل مغادرته لبنان، التقى في منطقة بعبدا التي أقام فيها مؤقتاً، أحد القياديين في تنظيم إسلامي، حيث عاتبه الرافعي على مشاركة عناصر من التنظيم في مهاجمة منزله، فنفى هذا المسؤول هذه المشاركة، وأكد ان المهاجمين كانوا من «الحركة» التي سيطرت لاحقاً على المدينة، وان هؤلاء استولوا على سيارات إسعاف تابعة للتنظيم وتمكنوا بالخداع من الدخول إلى باحة المنزل والسيطرة عليه بقوة السلاح.
اللقاء في بغداد
في العام 2000 وفي أعقاب حرب الخليج الثانية كان العراق رازحاً تحت حصار وعقوبات شديدة الوطأة ومُنع من تصدير نفطه، فتراجعت أوضاعه الصحية والاقتصادية والمالية على مختلف الصعد، وأصبح الدولار الأميركي يساوي زهاء ثلاثة آلاف دينار، وبدأ الشعب العراقي يعاني الصعوبات والتجويع.
وسط هذه المعاناة قامت حملة تضامن واسعة من الشعوب العربية والغربية مع الشعب العراقي وللمطالبة برفع الحصار عن هذا البلد العربي والتنديد بالإجراءات التي تستهدف الشعب العراقي خدمة لأغراض وأطماع استعمارية.
وسط هذه الأجواء أُعلن عن قيام «اتحاد أطباء الأسنان العرب» بعقد مؤتمره السنوي في العاصمة بغداد تحت شعار «التضامن مع الشعب العراقي ضد سياسة التجويع والحصار».
وأعربت «نقابة الأسنان» في طرابلس عن تأكيدها المشاركة في هذا التحرك وحضور المؤتمر في بغداد الذي امتنعت بعض النقابات العربية المؤيدة لسوريا عن حضوره.
ونظراً للعلاقات التي كانت تجمعني بـ «نقابة أطباء الأسنان» في طرابلس، إنطلاقاً من مهنتي الصحافية وإيماناً مني بأحقية هذا الموقف، فقد سارعت إلى إعلان مشاركتي في الوفد النقابي الذي سيزور بغداد عن طريق البر وعبر سوريا وبواسطة سيارات G.M.Cتحمل لوحات عراقية تحركت إلى العاصمة بيروت ومن ثم إلى سوريا تنقل النقيبة نايلة كرم تاجر، والدكتور الصديق محمود شربجي. وأنا، إضافة إلى زهاء 20 طبيباً وطبيبة أسنان من مختلف مناطق الشمال.
وكانت رحلة الذهاب هادئة جداً وصولاً إلى نقطة «التنف» الحدودية بين العراق وسوريا، حيث تم استقبالنا رسمياً في صالون الشرف من قبل المسؤولين العراقيين، وعلمنا ان الدكتور الرافعي كان على اتصال دائم بالمسؤولين عند نقطة الحدود يستفسر عن حضورنا كل ربع ساعة تقريباً.
الاعلان عن «جيش فلسطين»
وكان وصولنا إلى حدود مدينة بغداد في ساعة متقدمة من الليل واستمر الموكب في سيره لأكثر من ساعتين داخل العاصمة نفسها حتى وصولنا إلى «فندق الرشيد».
وخُصص اليوم الأول للتعارف بين وفود أطباء الأسنان العرب والاطلاع على برنامج المؤتمر الذي سيُعقد على مدار عدة أيام في «فندق الرشيد».
وعند الظهيرة دُعينا إلى مأدبة غداء بدعوة من أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي عضو القيادة القومية للحزب الدكتور عبدالمجيد الرافعي، في «نادي الفرسان»، حيث اعتذر الرافعي عن الحضور وحضرت عقيلته الرفيقة ليلى وأشارت إلى ان غياب الدكتور رافعي يعود إلى مشاركته في «بروفه» العرض العسكري الذي سيقام بعد غد ويشارك الرئيس صدام حسين و«جيش فلسطين» وقوامه مليون جندي بأسلحتهم الكاملة والمتنوعة.
وكان اللقاء مع الرفيقة ليلى ممتعاً، وكان مكاني إلى جانبها حيث توزعنا إلى مجموعات حول طاولات المطعم، وتركزت الأسئلة على الأوضاع في طرابلس ولبنان ودُهشنا ان إطلاعها على الأحوال في طرابلس دقيق ومفصل وهي على علم ودراية بها أكثر منا.
وفي المساء ومن خلال التلفزيون العراقي علمنا ان التدريبات (البروفه) للعرض العسكري كانت للتمويه حيث أقيم الاستعراض فعلياً وبحضور الرئيس العراقي صدام حسين الذي ظهر يحمل بندقية وإلى جانبه فقط الرفيق عبدالمجيد الرافعي.
حديث عن التجمع الوطني
وتزامن ذلك مع ذكرى «عيد الاستقلال في لبنان»، فبعد افتتاح أعمال المؤتمر في اليوم الثاني، قمت والدكتور شربجي والمهندس يوسف وهبي الذي كان بصدد إنجاز مشروع إعماري وإنمائي في العاصمة العراقية، بزيارة إلى «النادي اللبناني» في بغداد حيث أقيم احتفال بمناسبة «عيد الاستقلال اللبناني» بحضور النائب عبدالمجيد الرافعي.
وانتقلنا بعد انتهاء الاحتفال إلى قاعة جانبية حيث أفاض الدكتور الرافعي بالإشادة بمواقفي الصحافية وبالتغطية الاعلامية التي كنت اتولى القيام بها عبر عدة صحف لبنانية كمدير لمكاتبها في طرابلس كـ «اللواء» و«النداء» وغيرهما وكشف عن مساهمتي في إعداد بعض بياناته أو صياغتها.
ونوه الرافعي بالدور الذي لعبه «التجمع الوطني للعمل الاجتماعي» وقد انتخبت عضواً في مجلس التنسيق في التجمع وفي هيئة مكتب مجلس المندوبين مؤكداً أهمية تضافر جهود الفاعليات الاجتماعية والنقابية للنهوض بالبلد وان هكذا طاقات وأفكار بإمكانها إيصال لبنان إلى شاطىء الأمان.
إنزعاج أمني لبناني – سوري
ولكن رحلة العودة من بغداد شهدت بعض التوتر على يد الجهاز الأمني اللبناني – السوري الذي ساءه ان ينجح مؤتمر «إتحاد نقابات أطباء الأسنان العرب» الذي عقد دورته في بغداد تضامناً مع الشعب العراقي وما تخلله من مواقف وما صدر عنه من توصيات ونتائج.
فعند وصول موكبنا إلى مركز الحدود اللبنانية في الشمال بعد عبورنا سوريا متوجهين إلى طرابلس، تم توقيفنا ومصادرة جوازات سفرنا ومنعنا من مواصلة طريقنا إلى الداخل اللبناني.
واستمر توقيفنا لأكثر من ساعتين دون أي توضيح من قبل المسؤولين الأمنيين اللبنانيين الذين كانوا يكتفون بأن هناك مراجعات مع رؤسائهم وهناك «رفض لاعطائنا الأذن بمواصلة طريقنا»!
وعلمنا خلال هذا التوقيف القسري من أحد المسؤولين وجود انزعاج لدى «الجهات السياسية» من مشاركتنا في المؤتمر وان المسؤولين السوريين رغبوا بأن يتم توقيفنا على الأراضي اللبنانية وليس السورية، نظراً للأبعاد العربية والدولية في حال تم ذلك على الأراضي السورية.
وكادت القضية تتصاعد سيما وأننا في الموكب الممنوع من مواصلة طريقه، تمكنا من تسريب الخبر إلى الجهات الاعلامية وإلى قيادات المعارضة، وبوشر في اتخاذ خطوات لإثارة القضية على أعلى المستويات وفي المجالين الإعلامي والشعبي.
ووسط هذه الأجواء إضافة إلى التذمر في أوساطنا نحن «الموقوفين» على الحدود، صدرت «الأوامر» بالإفراج عنا ومتابعة طريقنا وصولاً إلى طرابلس سالمين.
العودة الثانية
بعد احتلال العراق في العام 2003 عاد الدكتور الرافعي الى لبنان.
وقد حالت الأوضاع بعد اتفاق الطائف دون تمكن الدكتور الرافعي من المشاركة في الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان في الأعوام 1992، 1996، 2000، للأسباب الأمنية المعروفة.
أما في العام 2005 فقد جرت هذه الانتخابات وفق قانون الـ 2000 وتواجهت «لائحة المصالحة والإصلاح» التي ضمت مرشحي «ثورة وقوى 14 آذار»، و«لائحة قرار الشعب» وامتنع عن الترشح الرئيس عمر كرامي، والرئيس نجيب ميقاتي الذي ترأس الحكومة التي تولت إجراء هذه الانتخابات.
وفازت «لائحة المصالحة والإصلاح» بمعدل 90 ألف صوت، في حين نال عبدالمجيد الرافعي حوالي 75 ألف صوت ونال باقي أعضاء «لائحة قرار الشعب» ما معدله 65 ألف صوت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.