إلتزم قضية الإنسان
المطران جورج بو جودة
رئيس أساقفة أبرشيّة طرابلس المارونيّة
إتّصلتُ به هاتفياً لمعايدته بعيد الفطر السعيد فأبلغني أنّه طريح الفراش ولا يستطيع مقابلة زوّاره، فأبلغته أنّني بالرغم من ذلك سأزوره في أقرب فرصة ممكنة، لكنّ الموت سبقني واختطفه من بيننا ليلقى المصير الذي ينتظرنا جميعاً.
كنّا نتبادل الزيارات دورياً بمناسبة الأعياد، لم يكن يترك عيداً مسيحياّ يمرّ دون أن يزور المطرانيّة مهنئاً، ولم نكن نحن بدورنا نترك عيداً إسلامياً يمر دون زيارته في منزله، فنتبادل التهاني والآراء في الأوضاع السائدة في البلاد، وبصورة خاصة في كل ما يتعلّق بقضية الإنسان، وبما تمرّ به منطقتنا العربيّة من ظروف أليمة، بسبب الإنقسام والتشرذم السائدين فيها.
توطّدت العلاقات بيننا فلم تعد مجرّد علاقات بروتوكوليّة بل أصبحت علاقات تسودها المحبة والإحترام، وقد إكتشفتُ في الدكتور عبدالمجيد شخصاً يعيش الإلتزام بكل معانيه وأبعاده.
إلتزام سياسي منفتح وليس تعصّبيّاً لكنّه مبنيّ على قناعات إكتسبها منذ صباه في مدارس طرابلس أولاً ثمّ في جامعات أوروبا وبصورة خاصة جامعات سويسرا، حيث صار بإمكانه مقارنة الأوضاع المستقرّة أمنياً والمتطوّرة علميّاً وإجتماعيّاً وأوضاع عالمنا العربي الذي تسوده الإنقسامات والخلافات التي تؤدّي، كما هو حاصل اليوم لسوء الحظ في عدد من البلدان حيث تتساقط الضحايا بالألوف، نتيجة للتعصّب الأعمى والإدّعاء بالمحافظة على الدين وحمايته من الغرباء، والدين من كل ذلك براء.
وكان الدكتور عبدالمجيد يتألّم عندما يتحدّث عن كل هذه الأوضاع ويُعبّر عن خوفه من أن تتأثّر مدينته الحبيبة بكل هذه الأمور، وبصورة خاصة في السنوات الأخيرة التي تعدّدت فيها جولات القتال بين أبنائها في أحيائها الفقيرة والبائسة في جبل محسن وباب التبانة.
كان الدكتور عبدالمجيد يقارن غالباً في أحاديثه، مستنداً إلى التاريخ بين ما كان للعرب من دور في التاريخ حيث برع الكثيرون منهم في العلوم والثقافة وحيث تعاونوا مع العلماء الغربيّين في الأبحاث والدراسات، وبين الوضع السائد اليوم الذي يحاول الكثيرون إعادة هذا العالم العربي إلى عصور الجاهليّة.
منذ صباه، وهو ما زال في مرحلة الدراسة في لبنان فهم أنّ السياسة هي فن القيادة الواعية في سبيل التقدّم والرقي والنجاح في بناء المجتمع، وفهم، وهو الطبيب البارع الذي يُشخّص علميّاً مواقع المرض لمعالجته، أنّ ذلك يؤهّله لتشخيص المرض الإجتماعي، كي يحاول معالجته، ولذلك خاض الإنتخابات النيابيّة وخرق لوائح المحادل والتكتلات السياسيّة ووصل إلى الندوة البرلمانيّة ليحاول العمل مع زملائه النوّاب معالجة الأوضاع. وقد كرّس معظم وقته، بالإضافة إلى المعالجة السياسيّة لأوضاع المجتمع، أن يعالج أمراض الناس الذين كانوا يتوافدون إليه بالمئات من مختلف المناطق في مدينة الفيحاء فيعالجهم مجّاناً ويؤمّن لهم الدواء.
لم تغرّه الحياة في أوروبا بالرغم ما كان بإمكانها أن تؤمّن له من إمكانيّات الوصول إلى المراكز المرموقة إن في حقل الطّب أو في الحقل الإجتماعي. فقرّر العودة إلى لبنان ليعيش مع أبنائه أوضاعهم الإجتماعيّة ومعاناتهم، فلم يكدّس الغنى والثروات ولم يبنِ لنفسه القصور، بل بقي يعيش كعامة الشعب، وقريباً منه، فنزوره في بيته الذي لا يميّزه عن سائر البيوت المجاورة سوى وجود عدد من الناس على بابه ينتظرون مقابلته لإستشارته وطلب مساعدته الطبّية والإجتماعيّة التي لم يبخل فيها على أحد.
فهم الدكتور عبدالمجيد أنّ الطّب ليس مهنة كغيره من المهن، بل هو رسالة في خدمة الإنسان، فإلتزم قضية الإنسان. فأحبّ الناس وأحبّوه وتألّبوا حوله آملين أن يتمكّن من معالجة أوضاع البلاد وأمراضها كما يعالج أمراض الجسد.
مات الدكتور عبدالمجيد، لكنّه مات «رافع الرأس» كما كتب عنه رضوان عقيل في جريدة النهار. مات ولم ينحنِ، بالرغم من تقدّمه بالسّن.
فإلى ديار الخلد يا من إلتزم قضية الإنسان لتقابل وجه ربّك وأنت رافع الرأس.