طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

صور ثلاث غنية في معناها عميقة في دلالاتها

الإضاءة على الوجود المتجسد بحدث ما… يعطي الدلالة العميقة على الإنسان الذي يصنعه أو يعيشه… وأجد أن من المفيد حين أكتب عن الصديق المرحوم الدكتور عبدالمجيد الرافعي، أن أشير إلى ثلاثة صور، غنية في معناها وعميقة في دلالتها…
الصورة الأولى
الصورة الأولى، وهي في بداية أحداث عام 1958. كنت أعرف الدكتور عبدالمجيد معرفة عامة متولدة من عملية الانتخابات التي خاضها «حزب البعث» بشخص الدكتور لأول مرة في طرابلس. ولكن إنفجار الأحداث وتحولها إلى صراع مسلح، عمّق الإتصالات والعلاقات… 
في بداية الأحداث، أصبت برصاص قناص من قناصي الجيش، ولم أكن مسلحاً ومجرد هدف قد يتسلى به هذا القناص ليدل على أنه قادرعلى إصابة الهدف، ليس عصفوراً بل إنساناً.
وحين نُقلت إلى المستشفى الذي كان يديره الدكتور عبدالمجيد، لعلاج المصابين، أبلغني أن ليس لديه مُخَدَّر وأنني أمام خيارين:
– الأول أن أُنقل إلى مستشفى في المدينة حيث يسيطر الجيش، وفي هذه الحالة يمكن أن أُعتقل ويُحقق معي… 
– وإما أن يُجري لي العملية بدون مخدر إذا كنت أستطيع أن أتحمل الألم. 
وقد أخترت العملية بدون مخدر، وهكذا أجرى العملية وفي فترة النقاهة، والصورة كلها تنصب على هذه الفترة، كان يتابع حالتي يومياً…
وكان يتابع علاجي، بصبر وعفوية… أحسست في ذلك الوقت أنه في عمله لا يسعى لأن يتلقى الشكر ولا يشير مطلقاً بوعي أو بدون وعي إلى أنه يقدم لي خدمة بل كان يعمل بعفوية الإنسان القادر على العطاء بدون حدود.
هذه الملاحظات أشارت إلى مسيرته الطويلة في تقديم الخدمات الطبية والعمل النضالي ومكان عمله وجهده، يجسد طاقة عظيمة على العطاء «الطبيعي»… وهذه القدرة، كانت وراء استمراره الطويل في كافة الميادين…
الصورة الثانية
الصورة الثانية كانت في القاهرة، وكان قد أتخذ موقفاً مميزاً عن أغلب الحزبيين، حين أصدر بياناً ضد الانقلاب في سوريا والانفصال والتمسك بالوحدة وبالجمهورية العربية المتحدة…
وكنت خلال هذه الزيارة، قد اعتزلت العمل السياسي في الحزب، إتصل الدكتور بي ودعاني إلى أن نذهب في جلسة في «جزيرة الشاي» في «حديقة الحيوان» في «الجيزة»… طبعاً كان لا يمكن أن أتردد بلقائه، لما لنا من علاقة طويلة في العمل السياسي وعن قرب… 
في «جزيرة الشاي»، جلسنا، كنت أتوقع كل لحظة أن يبدأ الحديث ناقداً تصرفي ومستفهماً أسباب هذا التصرف…
ولكن لم يثر هذا الموضوع مطلقاً، كان في يده ديوان «الأخطل الصغير»، تكلمنا عن الشعر، وهو في حياته كلها، كان يعشق الشعر، وله محاولات وقصائد.
انتهى اللقاء، دون الحديث في السياسة من قريب أو بعيد وكم كان لهذا اللقاء أثر في نفسي، فهو قد قال لي بالممارسة… أن علاقتنا دائمة ومستمرة وأن خياري لا يمنع من أن تبقى هذه العلاقة. وبالفعل، بهذا اللقاء قد أسرني طوال سنوات.
فقد كنا سواء نلتقي بالمواقف السياسية أو نختلف بالتحليل لمعنى الأحداث وهذا ما جعلني على قرب منه طوال تلك السنوات.
الصورة الثالثة
الصورة الثالثة، كانت بعد سنة أو أكثر، وأظنني كنت أمارس مهنتي كمحامي، ونتيجة الانقلابات المتسارعة في سوريا، واضطراب المواقف السياسة في الحزب. 
خاصة وأن بعض هذه الانقلابات كانت بين الحزبيين وتكتلاتهم… 
في هذه الظروف الصعبة، والقلقة خرج بعض الحزبيين برأي، يقول بضرورة استقلال تنظيم البعث في لبنان عن التنظيمات في البلاد العربية، بحيث لا يكون ضحية للإنقسام والصراع.
وطلب مني بعض الشباب أن أشاركهم في زيارة الدكتور لمحاولة إقناعه بهذا الموقف، وتوحيد الحزب في لبنان والعمل المستقل في إطار الوحدة العقائدية…
حاولت أن أتملص من هذه الزيارة وخاصة وإن لي موقفاً مختلفاً عنهم تماماً… ولكن إصرارهم، جعلني أشاركهم في الزيارة المهمة والتي حملت دلالات تفسر الكثير من الأحداث التي جرت على مدى السنوات…
طرح البعض – ولا أريد أن أذكر الأسماء، لأن الموقف هو المهم – الغاية من اللقاء والأسباب التي تدعو إلى هذه الخطوة… 
وشارك أغلب «الوفد» في الحديث… وكنت تقريباً الصامت الوحيد، وكأني الشاهد الوحيد أنتظر أن تنتهي المداخلات. قال الدكتور عبدالمجيد وما زلت أذكر هذه الكلمات لطالما ترددت في ذهني:«أولاً… وبصراحة، فيكم من لا أسير معه خطوات، والبعض على إستعداد للعمل معه، والبعض الثالث أسير معه إلى النهاية… وأريد أن تعرفوا… أنني حزبي وعلاقتي بالحزب كزواج موراني غير قابل للإنفصال وأنا مع الشرعية الحزبية… ولن أخرج عليها مطلقاً…».
وهكذا سقط مشروع الاستقلال الحزبي، وهذا يفسر الكثير من المواقف التي اتخذها الدكتور في ظل شرعية القيادة، ومهما كان هذا الالتزام من عبء ثقيل شرَّده سنوات في المنفى، وقَبِلَ هذا التشرد بصبر وإصرار…
كان الدكتور عبد المجيد إنساناً في أعماقه، هادئاً لا يعرف القلق، ولديه قدرة هائلة على أن يتوافق مع قناعته، وإلتزامه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.