ممن تسعى الزعامة إليهم وهم عنها مشغولون بهموم الأمة
د. صفوح أحمد يكن
منذ أيام فقدت مدينتنا طرابلس علماً من أعلامها الأفذاذ، رجلاً قلَّ أن يجود الزمان بمثله، إنساناً جُبلت طينته من الإنسانية الخالصة، بحيث لم يكن في فكره وعقله وقلبه مكان لغير الأخلاق السامية والمبادىء الرفيعة.
الدكتور عبدالمجيد الرافعي، اسم لامع مشرف، غُيِّب جسده، ولكن يبقى ذكره على كل لسان صادق، وسيرته العطرة تطرب لها آذان الشرفاء مهما تنوعت انتماءاتهم وتباينت أحزابهم.
كيف لا وهو من تشرَّف بمدينته فشرُفت به؟
ومن أخلص لعروبته فاعتزت به، ولم يكن في كل شؤونه النضالية كبقية الطامعين بالشهرة، المتوسلين إلى الزعامة كل وسيلة، وإنما كان من أولئك القلائل الذين تسعى الزعامة إليهم وهم بها زاهدون، وتحفهم الشهرة وهم عنها مشغولون بعظائم الأمور، تؤرقه هموم الأمة، ويؤلمه وجع الناس، ويبكيه حال الفقراء والمساكين والمعوزين….
قامة شاهقة يقصر عنها كل مديح
لقد كان رحمه الله من ذلك الصنف من الكبار، يُشعرك كلما أسهبت في الحديث عنه وتعداد مآثره بالعجز والتقصير، فهو قامة شاهقة تقصر عنها كل أثواب المديح، وتضؤُلُ أمالها جبال الثناء..
ومع ذلك يجد من يعرفه نفسه مرغماً على الحديث عنه، لينتفع المتحدث نفسه بتلك المواقف والمآثر، وكم كان لِسِيَرِ العظام من آثار طيبة في نفوس ناقليها وسامعيها، وما كان ليموت من حيي ذكره وبقي تراثه في ذاكرة الناس وعلى ألسنتهم.
جذبني بأخلاقه وسيرته لأحذو حذوه بدراسة الطب لمساعدة المرضى
لقد كانت صلتي بالدكتور عبدالمجيد متميزة، فهو المثل والقدوة، والرجل الملهم الذي جذبني بأخلاقه وسيرته لأقتفي أثره وأحذو حذوه في دراسة الطب وامتهانه رغبة في مساعدة المرضى من المساكين والمعوزين، لم يكن يريد أن يُحصِّل ثروة ولا أن يبني شهرة، ولكن إحساسه المرهف ووعيه بمسؤولية هذه المهنة الشريفة التي يعلم كل من أقبل عليها بصدق ما ينتظره من تضحيات وإغفال للذات ونبذ للراحة.
«طبيب الفقراء» يا له من وسام
إحساسه بعظم هذا الواجب هو الذي جعله يتجول في حواري طرابلس حاملاً حقيبته ساعياً إلى بيوت المرضى يطببهم ويبذل الوسع ليخفف آلامهم وأوجاعهم.. وهذا الإحساس الصادق بالمسؤولية هو الذي جعله يفتح أبواب عيادته مجاناً حتى أصبح يُعرف بـ «طبيب الفقراء» ويا له من وسام شرف يليق بتلك الأخلاقيات المهنية الرفيعة!
الثابتون على القيم مرتفعون إرتفاع الصقور ود. عبدالمجيد أبرزهم
ولم تكن تلك الروح الطيبة لتنحصر مآثرها في مضمار المهنة والإخلاص لها والتفاني فيها فحسب، ولكنه حيث حلّ، رحمه الله، كان يترك أثراً بيِّناً في نفوس من حوله، وقد شهد له كل من عرفه في ميادين النضال نصرة لقضايا الأمة والعروبة، وإذا كان المتشدقون بالشعارات الرنانة كثيرون كثرة بغاث الطير، فإن الثابتين على المبادىء الشامخين بما يؤمنون به من القيم والثوابت قليلون، مرتفعون ارتفاع الصقور على قمم الجبال، والدكتور عبدالمجيد من أبرزهم، حمل قضايا أمته في قلبه وفكره، ولم يترك وسيلة شريفة إلاّ سعى إليها خدمة لتلك القضايا المحقة.
وأبرزها:
– القضية الفلسطينية،
– وتحرير البلاد العربية من كل محتل ومستغل.
ولم يكن دخوله إلى ميدان السياسة إلاّ من هذا الباب، حيث إن جذوره الراسخة في تراب العروبة ثُبتت أمام تلاطم أمواج المصالح والأهواء والأطماع السياسية.
فظل طوداً شامخاً وسط الهامات المنحنية.
ووجهاً مضيئاً تلونت الوجوه في زمنه بألوان المطامع والغايات الوضيعة.
أية خسارة مُنيت بها طرابلس
رحمك الله يا دكتور عبدالمجيد وأسكنك فسيح جناته.
فأية خسارة هذه التي منيت بها طرابلس برحيلك.
وأي جرح فُتق في قلب العروبة المكلوم.
وأية مهمة صعبة ألقاها موتك على عواتق الشرفاء والمخلصين من السائرين في دربك…
لقد أتعبت بحق كل من جاء بعدك!