الرجل الذي أعطى ولم يأخذ
د. بشير مواس
أن تكتب عن الدكتور عبدالمجيد الرافعي فإنك لا بد ستشعر بشيء من الرهبة ولم تمضِ بضع ساعات على رحيله.
نعم نعلم ان الموت حق ولكل مخلوق أجل إلاّ ان التعود على الغياب ما يزال بعيداً عمن عرفه عن كثب وعاصره عشرات السنين وتلك هي حالي في هذا الشأن.
تخيله انه لم يعد بيننا وللأبد لم يخطر على بالي إلى الآن ربما لأني كما كثيرين غيري نهرب من الحقيقة ونرفض فكرة غيابه من الأساس.
وهذا أولاً ينبع من العقل بل من أعماق الشعور والوجدان.
ربما أيضاً كنت أرفض في داخلي ان يُصاب بأي مكروه يخطفه من بيننا.
نعم لقد تعودنا على غيابات عديدة مؤقتة في حياته، واستمرت آخرها حوالي عشرين عاماً، إلاّ اننا كنا نعلم انه موجود في أرض يحبها ويحب أهلها كما هي، وأهلها يحبونه، ومنذ عودته إلى لبنان وطرابلس بالتحديد في عام 2003 فإنه لم يتركنا ولم يضطر لحمل حقائبه والسفر قسراً كما كان عليه الأمر سابقاً، فهذه السنين الخمس عشرة الأخيرة أشعرتنا باستمرار وجوده بيننا وعلى رأسنا.
كما أشعرتنا بأننا مطمئنون لبقائه واستمراره في إدارة ليس شؤوننا السياسية والحزبية بل أيضاً تطمئنون بأن لطرابلس وأهلها بل للوطن بكامله رجل يحمل همومهم بنفس الحماسة والالتزام الذي عُرِف عنه منذ ان بدأ رحلة العمل النضالي الشعبي والحياتي ثم السياسي.
الصعوبة الثانية في الكتابة عنه وعن مسيرته أو عن جانب منها تتمثل في أن هناك من سبقني إلى ذلك وهم كثر، تحدثوا عنه وعن مزاياه وما يحمله من قيم ومبادىء ليست حصراً في الميدان السياسي بل في ميادين أخرى أهم من السياسة والسياسيين.
فأجد نفسي أخشى ان أقصر تجاهه في جانب معين أفاض فيه من سبقني في المهمة، كما أجد نفسي أخشى من تغييب نواحٍ قد تشكل نقصاً فيما أكتبه.
40 عاماً معه وقربه
أربعون عاماً وأكثر وأنا على علاقة معه وقرب منه وتواصل حتى في سنوات الهجرة القسرية سواء بزيارات قمت بها إلى مقره في بغداد أو بالاتصال الهاتفي عندما تسمح لنا الظروف.
شركة فرنسية عرضت علي العمل بعد نيلي الدكتوراه
وأذكر جيداً انني اتصلت به هاتفياً في بغداد وقلت له لقد حصلت على شهادة الدكتورة بدرجة مشرف وقد اتصلت بي إحدى المؤسسات عارضة علي عملاً في فرنسا فما رأيك؟
جوابه
فأجابني:
القرار يعود لك،
لكن أليست طرابلس بحاجة إليك رغم ظروفها الأمنية الصعبة؟
أليس من الأفضل تقديم الجهود والخبرات للوطن حتى ولو كانت المداخيل أقل؟
ألا تعتقد أنني أتمنى أن أعود إلى طرابلس وأشارك أهلها في حياتهم الصعبة من انقطاع الماء والكهرباء والخلل الأمني والاشتباكات بين هذا الفريق أو ذاك على ان أبقى في بغداد التي أنا معزز ومكرم فيها لأبعد الحدود؟
كان ذلك أواخر عام 1985.
عدت الى لبنان ولحظة وصولي وقعت «معركة العلم»
لم أرد عليه بأي كلمة بل قلت له خيراً إن شاء الله. لم يمضِ اسبوع واحد حتى رجعت إلى لبنان وفي لحظة وصولي إلى المطار انفجرت معركة عُرفت باسم «معركة العلم» نسبة إلى «عيد العلم» الذي أرادت الدولة فرضه عشية عيد الاستقلال ورفضته الميليشيات التابعة للوزير وليد جنبلاط في ذلك الوقت، وبالطبع حصلت تداعيات كثيرة لهذه المعركة وتوسعت وشملت أطرافاً أخرى.
الهدف من سرد هذا الحوار
ما أردته من هذه الواقعة هو الدلالة على رغبته بأن يكون كل طرابلسي وكل لبناني في خدمة وطنه حتى وإن كان ذلك على حساب راحته أو مستوى معيشته، فعندما يأتيك الجواب على سؤال ويضعك أمام خيار واحد من اثنين الشخصي أم الوطني ويكون مصدر الجواب هو الراحل عبدالمجيد فإنك ستنحاز أمام ذلك للخيار الوطني، لأنه شكل خلال كل مراحل مسيرته، وسيبقى بعد رحيله، شكل لنا نموذجاً صادقاً إلى أبعد حدود الصدق، ونموذجاً ملتزماً إلى أعلى درجات الالتزام، ونموذجاً مضحياً حتى حدود الاستعداد للتضحية بالحياة، كل ذلك في سبيل المبادىء السامية التي حملها في داخله والتي أدت به إلى الإيمان بالعروبة منهجاً في سياسته والوحدة العربية هدفاً يصبو إليه.
عطاء دون أخذ
قليلون جداً الذين دخلوا معترك الحياة المهنية والسياسية ليعطوا فقط دون ان يأخذوا، عبدالمجيد الرافعي على رأس هؤلاء لذلك استحق لقب الرجل الذي أعطى كل شيء ولم يأخذ شيئاً.
ألم يكن بمقدوره ان يصبح ذا جاه ومال؟
أليس باستطاعته ان يحتل أرفع المناصب السياسية لو انه تراجع قليلاً عن مبادئه وقِيَمِه؟
جَيَّرَ كل إمكاناته في العراق لطرابلس وأبنائها
نعم كان يستطيع ذلك بل كانت السبل مفتوحة أمامه خاصة إذا عرفنا إمكانيات الحكم الوطني في العراق الضخمة معنوياً وسياسياً ومادياً.
لم يدفعه ذلك للاستقواء بهذه الامكانات ولم يجيرها لنفسه بل أراد ان تعود بالفائدة على أبناء مدينته ووطنه.
ففتح أبواب الجامعات والمعاهد العراقية الراقية أمامهم.
كما فتح أبواب العمل لمن أراد.
إضافة لنجاحه في إقناع حكومة العراق الوطنية أن تعتمد مرفأ طرابلس حصرياً لاستيراد كل السلع والبضائع القادمة للعراق على ان تُنقل براً إلى مدن العراق بكامله، حيث شهد مرفأ طرابلس والنقل البري فيها عصراً ذهبياً لم تعرفه قبلاً ولن تعرفه بعدها.
مدرسة وأدعو نفسي والآخرين للإقتداء به
هذا هو الراحل الكبير وهذه هي مدرسته وهذا هو ديدنه، أدعو نفسي والآخرين إلى الاقتداء بهذا النهج لنثبت ان ما زرعه فينا أثمر بوجوده وسيثمر بعد رحيله.