محطات في حياتي
المدرسة
دخولي إلى المدرسة لأول مرة، قد تكون أهم محطة مؤثرة في حياتي. دخلت إلى المدرسة في العام الدراسي 1957-1958، وبما أن القواعد المعمول بها كانت تفرض أن يكون التلميذ قد بلغ السادسة من العمر، فقد اشترط المدير أن أبلغ السن القانوني، لذا كان عليّ أن أنتظر يوم 26 كانون الثاني 1958، متأخرًا ثلاثة أشهر عن سائر طلاب الصف التمهيدي في مدرسة الفيحاء الرسمية للبنين في طلعة الرفاعية.
لم أشعر بالارتياح وسط طلاب كانوا سبقوني في معرفة أحرف الأبجدية وبعض الأرقام الحسابية. كان جو المدرسة كئيبًا بالرغم من ضجيج الطلاب في فرصة الساعة العاشرة. فكنت أسعى بكل الطرق لكي أتغيب أو أتأخر في الذهاب إلى المدرسة.
كان نظام المدرسة يقسم ساعات الدراسة إلى فترتين، قبل الظهر وبعد، تمتد الفترة الأولى من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية عشرة والثلث. والفترة الثانية من الساعة الثانية حتى الرابعة بعد الظهر. وخلال فترة الظهر كنا نعود إلى البيت لتناول الغداء مع الأهل. وهكذا كنت أقطع المسافة من البيت إلى المدرسة أربع مرات يوميًا، وكانت هذه الرحلة التي أرافق بها أخي محمود الذي يكبرني بسنوات قليلة هي بمثابة تدريب على معايشتي حياة المدينة.
في الطريق إلى المدرسة كنت أمرّ بمقهى موسى وحمام الجديد وجامع المعلق وجامع الطحام وصولاً إلى طلعة الرفاعية، هذه الرحلة التي استمرت سنوات هي التي صنعت تعلقي بطرابلس وأسواقها ومساجدها وناسها.
إلا أن سنتي الدراسية الأولى كانت قصيرة للغاية، ففي شهر شباط من تلك السنة، أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، وكانت الأغاني الوطنية تصدح من راديوات تلك الفترة والتي يطلق أصواتها عالية، أصحاب الدكاكين المنتشرة من البيت إل المدرسة. فكانت الأحزاب والتظاهرات تعم المدينة. ولكن مع مطلع بداية شهر أيار بدأت الاضرابات الغاضبة في طرابلس، وتعطلت الدراسة، وتطورت الأحداث إلى صدامات مع الجيش. وفي التاسع من شهر أيار اعتُقل أخي معن الذي كان عضوًا في حركة القوميين العرب بتهمة التحريض على الثورة إذ كان يوزع المنشورات ضد حكم الرئيس شمعون واحتل الجيش المدينة، وأصبحت المدينة القديمة التي كنا نعيش فيها منطقة الثورة والثوار، وانعزلنا في حيّنا لا نغادره.
كانت أشهر الثورة الثلاثة مدرستي الوطنية الأولى بين شعارات الثورة التي يرددها أبناء البعث وأبناء حركة القوميين العرب. وبين القذائف التي تطلق ورصاص القنص الذي يصل إلى منزلنا. وبين اللهو في الحارة والضجر من تكرار أيام الصيف.
المكتبة
كان معن قد غادر طرابلس إلى القاهرة للدراسة في جامعتها، وكان حين يعود في أول الصيف حاملاً الكتب حتى تكونت لدينا في المنزل خلال سنوات دراسته الفلسفة مكتبة تضم مؤلفات في الأدب والرواية والفلسفة والتاريخ والسياسة. كانت العائلة انتقلت من حي الحدادين إلى الزاهرية. وكنت في العاشرة من العمر في الصف الرابع الابتدائي، حين بدأت أتصفح الكتب. وكانت أول الأعمال التي حاولت قراءتها تتصل بالأدب الفلسطيني. أذكر ديوان شعر بعنوان: «تذكرة عودة» للشاعر علي هاشم رشيد، ثم المؤلفات الأولى لغسان كنفاني. وسنة بعد سنة، كانت قراءتي تتسع لتشمل الرواية والتاريخ بشكل خاص.
في انتقالنا إلى شارع لطيفة في حي الزاهرية وانتقالي من مدرسة الفيحاء إلى مدرسة النموذج الرسمية، فقدت أصدقاء المدرسة التي غادرتها وأصدقاء الحارة. وبما أني كنت صبيًا لا أميل إلى الألعاب، فقد صارت مكتبة المنزل رفيقتي، أتصفح كتبها وأقلّب صفحاتها قبل أن أتمكن من فك حروفها.
الحرب
كان يوم اثنين، أول أيام الأسبوع، وأول أيام امتحان نهاية السنة الدراسية في الصف الثالث متوسط. دخل الأستاذ كامل إلى القاعة أصفر الوجه ، متلعثم: احزموا حقائبكم، لقد نشبت الحرب.
كنت آنذاك في المدرسة الثانوية -طريق المئتين-، وكانت الحرب بعيدة مئات الكيلومترات، ومع ذلك حسب الأستاذ كامل أن الحرب ستدخل من باب المدرسة. لم تصل الحرب إلى مدينتنا وربما وصلتها بعد سنوات.
خرجنا من باب المدرسة يساورنا شيء من الفرح الصغير وشيء من الأمل بأن الحرب الموعودة قد أتت، وساورنا قلق: ما الذي يمكن أن نفعله في أيام الحرب؟.
عدنا إلى منازلنا في طريقنا المعتاد. كل شيء في مكانه، لكن طبقة رقيقة من القلق كانت تغلّف الشارع والحي والمنزل، طبقة تزداد كثافة مع مرور الدقائق والساعات. أمضينا الأيام التالية نتعقّب الأخبار عبر الراديو في المنزل. خمسة أيام متصلة من الانتظار، ثم انتظار خطاب عبد الناصر، قبل أن تفيض المدن بأهلها ، لقد تغير كل شيء.
لم أكن أدرك أن الحرب ستغيرني بشكل لا رجعة عنه، كنت قبل الحرب أخطط لدخول كلية الفنون، وقد أصبحت متمرسًا برسم الماء والزيت على السواء. كنت أمضي أوقاتي في نفس الغرفة التي فيها المكتبة، استخدم الطاولة لأفرد الألوان وأشد القماش، ولم أكن أنجو من انزعاج الأهل الفرحين بموهبتي الصغيرة. لكن موهبتي هذه كانت أول ضحايا الحرب. أنجزت لوحة واحدة بالأحمر والأبيض تعبيرًا عن الحرب وكانت آخر أعمالي، وكنت قد اقتنعت في داخلي أن رسوماتي لن تعيد الأرض ولن تقرب موعد النصر أو الثأر، وكانت الضحية الثانية مراهقتنا. أخذت أبحث عن دوري في خضم البلبلة التي أصابت الجميع. التحقت بدورة تدريب أقامها الكشاف المسلم. وقرر القادة إقامة مخيم تدريب في سفوح جبال الأربعين في الضنية. أمضيت أسبوعًا شاقًا، كان الشباب والقادة يبدلون في المساء الملابس الكشفية، ويمضون إلى بقاع صفرين (البلدة المجاورة)، أما نحن صغار السن فكنا نبقى في خيمنا أو عند مداخلها في العتمة ننتظر دورنا في نوبات الحراسة.
كان تدريبًا عسكريًا من غير سلاح، استبدلنا البنادق بالعصي الغليظة، كنا نستيقظ باكرًا لنبدأ التدريب ونمضي أغلب الأوقات ضجرين.
في إحدى الأمسيات قرر قادة المخيم أن نتسلق جبال الأربعين بكامل العدة الكشفية، كانت ليلة مقمرة ومع ذلك كنا نحمل في أيدينا البطاريات المضيئة. وبالفعل وصلنا إلى قمة أول الهضاب المرتفعة، عاقدين العزم على مواصلة المسيرة، وفي استدارتنا حول المرتفع بانت في الأسفل أنوار قرى الضنية. ولم نكن قد أكملنا الاستدارة حتى سمعنا أصوات الطلقات تصطدم بالصخور حولنا. أُصبت بالذعر وطلب القادة إطفاء الأنوار في نفس الوقت صرخوا: كشاف، كشاف، ثم مكثنا صامتين دقائق، قبل أن يطلبوا إلينا أن نرجع إلى المخيم.
لم يلبِ الكشاف حماسي الوطني، فما كان أمامي سوى الانتساب إلى حركة القوميين العرب، التي أكاد أقول أنها كانت حزبنا العائلي.
وكنت قد ترفعت إلى صف الشهادة المتوسطة( البروڤـيه) وكان من الطبيعي أن أبدأ عملي في صفوف الطلاب والمشاركة في النشاطات والاتصالات السابقة لانتخاب اتحاد طلاب المدارس الرسمية. وكانت تلك الاتصالات خبرة مبكرة قبيل ممارستي لنشاطي الحزبي سنوات 1968 و 1970.
الجامعة
يُشكل انتقالي إلى بيروت عام 1971 للالتحاق بالجامعة اللبنانية محطة حاسمة،( لم يكن للجامعة اللبنانية حينها فروعًا في المحافظات). وقد أدركت فيما بعد أن الانتقال من بيت الأهل إلى الاستقلال النسبي هو بحد ذاته تحصيل للعلم. خصوصًا إذا كان الانتقال إلى بيروت التي كانت تضج بالنشاط السياسي والحركة الثقافية والنضالات الطلابية. وانتسبت إلى النادي الثقافي العربي، وأصبحت عضًوا في هيئة تحرير مجلة «الثقافة العربية» التي كان يصدرها. وقد تعرفت في سنتي الجامعية الأولى إلى مروحة واسعة من السياسيين والناشطين والمثقفين والصحافيين من خلال عملي في مجلة «البلاغ» ثم بعد ذلك في جريدة «السفير» و«الكفاح العربي». وكنت قد تسجلت في كلية الاعلام التي تركتها باكرًا لأنتقل إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب.
صوت البلاد
قبيل صيف 1972، اقترح علي المرحوم الأستاذ فؤاد أدهمي أن أعمل في صحيفة «صوت البلاد». وهكذا تعرفت إلى الأستاذ فايز سنكري. وكانت تجربة فريدة من نوعها لا تتوفر للكثيرين، لأن عملي كان يتراوح بين التحرير والمتابعة، وبما أن مكتب الصحيفة كان في غرفة زجاجية في المطبعة التي كانت قائمة في بناية الزهري في ساحة الكورة. فقد تعلمت مبادئ الطباعة الأولية، في نفس الوقت الذي أحرر فيه المقالات. وتوطدت بيني وبين عمال الطباعة أواصر التضامن حتى انتُسبت إلى نقابتهم وانتُخِبتُ عضوًا في مجلس إدارة النقابة.
خالد زيادة