طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

محطات من مسيرة الشاعر الراحل عبدالفتاح عكاري وحديث عن الصحافة و«منتدى طرابلس الشعري»

الراحل

ودعت الفيحاء إلى مثواه الأخير نقيب المهندسين السابق الراحل عبدالفتاح عكاري الذي عرفته المنابر والمنتديات الثقافية في طرابلس والشمال أديباً وشاعراً مرهف الإحساس إتصف بالرؤى وبالجملة الشعرية الناطقة بعذوبة الشجن وقلب لا ينفك عن مناجاة حلم الأزل وذكريات الهوى والشباب.
النقيب عكاري، كما كان يحلو له ان نناديه ونخاطبه، كان أديباً فذاً انتسب باكراً إلى «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» الذي تأسس في مفتتح العام 1970، وكان لي شرف مزاملته في عضوية الهيئة الإدارية للمجلس في دورات عدة، حيث شارك في محاضرات وندوات عدة عن واقع النشر العربي مشكلات الكتاب والكاتب، وفي نقد الشعر العربي الحديث، وكان من المشاركين الدائمين في الملتقيات الشعرية التي كان المجلس ينظمها سنوياً.
«رحيل إلى النسيان»
كما نظم المجلس ندوة حول المجموعة الشعرية للنقيب عكاري بعنوان «رحيل إلى النسيان» شارك فيها الدكتور نزيه كبارة، المحامي شوقي ساسين، الدكتورة غادة السمروط والدكتور أحمد الحمصي وقدم للندوة الدكتور ياسين الأيوبي في العام 2008.
«الموت ومخاض الغضب»
وكان «المجلس الثقافي» قد نظم أيضاً مناقشة لديوان «الموت ومخاض الغضب» للنقيب عكاري في العام 1988 تحدث فيها الدكتور ياسين الأيوبي والدكتور خريستو نجم في مقر اجتماعات المجلس في «القصر الثقافي البلدي»، وهذا «غيض من فيض» من الأنشطة الثقافية التي شارك فيها النقيب عكاري.
ياسين الأيوبي وتأسيس «منتدى طرابلس الشعري»
وسمحت لي الظروف في مطلع ثمانينات القرن المنصرم ان أشارك النقيب عكاري في تأسيس «منتدى طرابلس الشعري» وفي مقدم أعضائه الكاتب نزيه كبارة والأدباء والشعراء: محمد قاسم، عبدالكريم شنينه، ياسين الأيوبي، أحمد الحمصي، وغيرهم إضافة إلى النقيب المحامي رشيد درباس في مكتبه الذي خصصه لاستضافة إنعقاد المنتدى عصر كل يوم إثنين اسبوعياً، واللافت ان معظم أعضاء المنتدى كانوا أيضاً أعضاء في «المجلس الثقافي».
وعن تلك المرحلة يقول الدكتور ياسين الأيوبي في كلمة نشرها في ديوان صديقه عبدالفتاح عكاري بعنوان «رسائل من ماريز»، حيث يقول الأيوبي:
«عندما أحيا «المجلس الثقافي للبنان الشمالي» – في أيار 1981 – «ملتقاه الشعري الأول» لشعراء الشمال، كان «المنتدى الشعري» لمدينة طرابلس، فكرة مجهولة في رحم الغيب… وبقيت كذلك، إلى ان باح بها النقيب الشاعر عبدالفتاح عكاري، بعد «الملتقى» بأيام».
ضمير العصر وناموس التطور
ونمت الفكرة، يضيف الأيوبي، وترعرعت عبر لقاءات ضمت الكثير وناقشت الكثير «حتى كان يوم الثالث عشر من كانون الأول 1981 حيث اتخذ الشعراء والأدباء الذين التزموا أكثر من غيرهم بالحضور والبذل والعطاء، قراراً باعتبار أنفسهم أعضاء مؤسسين لـ «منتدى طرابلس الشعري» الذي أخذ على عاتقه إحياء مجالس الأدب الغابرة، واعتمادها منبراً حراً تُطرح فيه الآراء والأفكار والتجارب الشعرية، وفقاً لأسس ومفاهيم، منشأها الرؤى والأحاسيس الفردية، وغايتها خلق تيار أو مذهب له طابعه الخاص، على غرار المذاهب البشرية المعاصرة التي يعتبرها «المنتدون» إفرازات طبيعية لضمير العصر وناموس التطور… تاركين للزمن وحده، تصنيف عملهم ونتاجهم! ومن يدري؟
الثقافة شمالاً
ومن رحم المنتدى وخلال اجتماعاته الاسبوعية بضيافة الوزير السابق رشيد درباس، ولدت فكرة «تخصيص» صفحة كاملة في جريدة «اللواء» البيروتية التي كنت أراسلها وأقوم بادارة مكتبها في طرابلس، وهكذا كان، وعلى مدى سنوات كانت الصفحة الثقافية في «اللواء» التي حملت اسم «الثقافة شمالاً»، تصدر اسبوعياً كل يوم أربعاء، وتتضمن زاوية أو أكثر عن «المنتدى الشعري»، وغالباً ما كنت أنشر قصيدة كاملة لأحد أعضاء المنتدى يليها نص المناقشة حولها التي كانت تدور على ألسنة الأعضاء في خطوة غير مسبوقة في الصحافة اللبنانية.
ولاقت هذه المبادرة تشجيعاً من قبل سائر الهيئات الأدبية في طرابلس والشمال، الأمر الذي دفعني بتشجيع من أصحاب «اللواء» إلى تحويل تلك الصفحة إلى ملف اسبوعي من أربع صفحات كاملة يصدر صباح كل يوم خميس عن «اللواء» يحمل اسم «لواء الفيحاء والشمال» مع المحافظة على صفحة «الثقافة شمالاً».
خريستو نجم «ورسائل من ماريز»
وفي عودة إلى ديوان النقيب عكاري «رسائل من ماريز» نتعرف على «ماريز» وهي فتاة بلجيكية بارعة الجمال، مرهفة الحس، تعرف إليها الشاعر في «الاولمبيا» في باريس، صيف عام 1954 بعد دعوة للرقص.
وما يهمنا هنا تلك المقدمة المطولة التي كتبها الشاعر د. خريستو نجم لديوان صديقه النقيب عكاري، حيث يتحدث نجم عن القصائد التي تضمنها الديوان وفتراتها الزمنية على امتداد أربعة أشهر تلقى خلالها عكاري رسائل «ماريز» وكانت السبب في دفعه إلى «إنجاب» قصائد مبدعة.
يقول نجم: هذا الديوان الصغير يحكي تجربة عاطفية كان الشعر بطلها، بل كانت ماريز بطلتها الأولى، وهي محاولة طريفة لأني لا أعرف في أخبار الأدباء من اتبع هذه الوسيلة قبل شاعرنا، في صياغة لرسائل كتبتها ماريز ولم يكتبها الشاعر.. هي حكاية حب بين شاعر من لبنان وفتاة من بلجيكا، التقاها صدفة في باريس، وكان صاحبنا قد سافر إلى فرنسا ليتابع تحصيله في الهندسة الزراعية.
فتاة غربية معجبة بالشرق
إلى ان يقول نجم: من يطال هذه القصائد لا يسعه إلاّ التعاطف مع ماريز لما أظهرته من تفان صادق وشعور نبيل، ولا يسعه إلاّ معاتبة الشاعر على موقفه المتصلب من فتاة غربية كانت أكثر إعجاباً بالشرق من حبيبها الشرقي. ومهما يكن فماريز ليست نموذجاً للفتاة الغربية، باستثناء ما تتمتع به من حرية تخلو من رقابة الأهل والأقارب.
من رواد شعر التفعيلة
ويُبدي نجم رأيه في فن النقيب عكاري فيقول:
«نعتبره من رواد شعر التفعيلة، فقد صدر له عن «مطابع دار الفنون» عام 1958 ديوان «عندله» وهو مجموعة قصائد ألفها في بداية الخمسينات وفيها من براعة الصياغة ما يبوئه مكاناً رفيعاً في مجالي الشعر العمودي والشعر التفعيلي كما له مجموعات أخرى نشر بعض قصائدها في المجلات والصحف وظل أكثرها مخطوطاً يسمعه الناس في الأماسي».

قصيدة بيروت
في العام 1998 صدر للشاعر الراحل عكاري ديوان «لن تمطر السماء لؤلؤاً» من منشورات «اتحاد الكتاب العرب»، وقمت بنشر إحدى قصائده في «الثقافة شمالاً» بعنوان «بيروت» كتبها خلال الاجتياح الاسرئيلي في العام 1982، جاء فيها:
بيروت تلعق في الظلام جراحها…
حصدت لقتلاها حقول الجمر،
وانطفأت إلى يوم النشور…
بيروت لؤلؤة المدائن،
دُمرت طرقاً ودور…
بيروت فاغرة الجماجم،
تأكل الغسلين…
تشرب قيأها…
وتموت تحت الشمس واقفة
على مرأى العصور…
بيروت يا وجع الضحايا،
حطمي مرآتك الزرقاء،
واغتسلي بنار المعصية…
قرباننا لحم مدمى،
قربته النار للطاغوت
وابتدعت عذاباً لا يطاق
ضربت على الدنيا نطاق…
منعت إلى المنفى وصول الأغنية
بيروت ساحتك الحقيقة
والنضال غدا كلام…
لا شيء ينفع في خلاصك
لا الوعود ولا السلام
دُمرت يا بيروت،
وانتشر الظلام…
طرابلس الباسلة
وفي ديوانه «الموت… ومخاض الغضب» الصادر عن «دار الإنشاء» يخص الشاعر مدينته طرابلس بقصيدة بعنوان «طرابلس الباسلة»، نظمها في 6/7/1958ويقول فيها:
ستون يوماً تنقضي،
ومدينتي بالدم غرقى..
ستون يوماً… تقلق الدنيا
لها، قلباً وعرقاً…
ستون عفو الأبرياء!
شقيت بالذكرى وأشقى..
ومدينتي السمحاء تبذل
نفسها للموت شوقاً.
صمدت… فما برحت تشق
طريقها للنصر شقاً…
خسئ التبجح! لن يسود البغي… فانتفضي، وثوري.
أنا جرح شعبك… فاستعيري
للكفاح لظى السعير.
شلت يد الإجرام، تغدر
بالكبير وبالصغير!
ودما بنيك الأبرياء
تسُحُّ كالسيل الغزير…
خسىء التبجح! فاصمدي
كالطود في وجه الغرور
وغداً أراكِ، مدينتي،
وثراك كالآمال، خضل…
مزهوة المغنى، تقرّ
النفس فيك، وتستظل…
لك زغردات الغيد،
أفراح الشباب، وقد اهلّوا…
لك، يوم خاتمة الصراع،
مدينتي، عيد، ودلّ!
فاستبشري، سيطل فجر النصر،
مهما طال ليل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.