إصدارات في طرابلس: ومضة في مهب الزمان
توطئة
«ومضة في مهبّ الزّمان» هي المجموعة الثّانية التي أضعها بين أيدي القرّاء. بعد المجموعة الأولى «رؤيا على جدار الصّمت» وهي كسابقتها، تمّ ترتيب عناوينها عشوائيّا بحيث لم تراع التّسلسل الزّمني ولا الموضوعاتيّ ولا النّوع الأدبيّ ولا غيره. ربّما يكون ذلك بعيدًا عن العلميّة والتّنظيم، وربّما هو يواكب الفوضى الّتي يعتبرها البعض، وقد تكون كذلك، قمّة في التّرتيب، خاصّة في مجال الإبداع. وربّما هو التّنويع الّذي يقدّم للقارىء لوحة شاملة تحتوي على كلّ الخطوط والألوان يُقرأ فيها الأدب بالجملة ويُطّلع عليه بكلّ ما فيه.
بعض عناوينها عمره عشرون سنة وقد يزيد، وبعضه كتب منذ شهر وربّما أكثر بقليل وهو صدى لواقعة أو حدث موضوعيّ أو نفسيّ أو فكريّ وقد لا يكون كذلك. الغاية من الكتابة التّعبير عن الذّات بما هي موقف أو ردّة فعل أو تأثّر بحدث أو انفعال أو غيرذلك، ولكن بلغة شعريّة غايتها الجمال الفنّيّ.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة مساهمين في إظهار هذه النّصوص الشّعريّة وفي مواكبتها ومنهم أفراد عائلتي وزملائي في المنتدى الثّقافيّ في الضّنّيّة وفي منتدى طرابلس الشّعريّ وبعض وسائل الإعلام الثّقافيّ وغيرهم وأشكرهم جميعًا.
ولا بدّ لي أن أشكر مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثّقافيّة على تولّيها إصدار هذه المجموعة الشّعريّة وعلى تشجيع الأدباء والكتّاب في طرابلس المحروسة وفي شمالنا ولبنان وشكرنا الخاصّ إلى رئيس هيئتها الإداريّة الدكتور المحامي سابا قيصر زريق، عاشق الفيحاء.
إنّني أحاول شعرًا وأسعى إلى النّص الأجمل ولست أدّعي الوصول ولا المثاليّة وأعتذر عن كلّ خطأ مادّيّ أو شكليّ أو لغويّ إن وُجد، سيّدي القارىء.
أحمد يوسف
«التّيه»
مسترشدًا طرُقي
تسعى بيَ الطّرقُ
الشّعرُ بوصلتي
مينائيَ الورقُ
والفجرُ أشرعتي
والحبرُ لي شفقُ
والتّيهُ أوراقي
والليلُ لي حَدقُ
مازلتَ يا قلمي
في الظّلّ تأتلقُ
ومضاً يُطلُّ على
الدّنيا ويَحترقُ
الغابرونَ مَضَوا
جاؤوا وما نَطقوا
رفّوا وما انطلقوا
ضَجّوا وما بَرقوا
والمقبلونَ غدًا
آياتهُم خِرَقُ
آفاقُهم ظُلمٌ
أحلامُهم رَهقُ
يا عمرُ ما غدُنا؟
ما السّرُّ؟ ما الأفقُ؟
هل للضلول هدًى؟
هل للهدى نَفقُ؟
متأبّطاً حُلمي
يَغتالني الأرقُ
والرّيحُ تَغزلني
والشّطرُ والنَّزقُ
«عدْ إلى الشّعر»
عدْ إلى الشّعر إن قدرتَ عليهِ
و اشربِ الكاسَ والصّفا من يديهِ
إنّ في الشّعر جذوةً ولهيبًا
وحنينًا تصبو النّفوسُ إليه
كم بكى الحبرُ في يديَّ وجاشتْ
بالبكا مقلةٌ على خدّيه
وترفقتُ باليراع فأضحى
برعمًا تنتشي الحروفُ لديه
وسهرنا معًا على ضوءِ نجمٍ
يتلاشى الضّبابُ من جانبيه
نرتقي الليلَ فوقَ صهوةِ ديجورٍ
يجولُ الصّباحُ في هُدبيه
طرْ بنا خارجَ الزّمان أيا ليلُ
وخفّفْ ما شئتَ عن منكبيه
إنّما نحنُ جثّةٌ تتهاوى
غضّ من نتنِها الرّدى جفنيه
وكذا العيشُ طعمُه وقعُ سيفٍ
نشربُ الدّمعَ من كلا حدّيهِ
«مرايا الجسد»
المساءاتُ توالتْ
وعيونُ الأيكةِ الصّفراءِ لاتنأى عن الأرض الحزينهْ
وأيادٍ تقطفُ اللوعة في السرِّ على لوحِ الشّجرْ
والمدى آيتُه الليلُ، وأصواتُ السّكينهْ
ترتدي أستارَها الشّوهاءَ في موج السّحَرْ
فارقصي يا نبضةً في القلبِ
وارقصْ ياقمرْ
عَوّدَتْني نجمةُ الصّبح على السّيْرِ وحيدا
ودروبُ الليل أشلاءُ الجبالِ الرّاسياتْ،
تتوارى في تجاعيدِ يديَّ الذّكرياتْ
وتهبّ الريحُ من خاصرةِ الصّبح على وهجِ الحنينْ
لم يدمْ وقتٌ ولم ينبضْ سوى الأفقِ الحزينْ
حينما هبّتْ غيومُ الشّجر اليابسِ
أو حين ارتدى الموجُ شُعاعَ الرّعَشاتْ
لم يكنْ يومٌ يعودْ
لم يكنْ إلّا لسانُ الفجر يُنبي بالوعودْ
وارتجافِ الأمنياتْ
أيّها المزروعُ في آنيةِ الصّخر وأوتادِ الحريقْ
أيّها السّاكبُ فحمًا في أتون العمر آهِ من لعبتكَ الخرقاءِ
ياعمرَ اللهاثِ على الطّريقْ
آهِ من رفّةِ جفنٍ وعيونٍ لا تُفيقْ
يسكنُ الليلُ مدى كفّيَّ، أغصاني وقلبي
وكما كنتُ على العمر صغيرا
فاقداً رُشدي وأحلامي ودربي
هكذا أمضي إلى الشّمس وحيدا
هكذا تجعلني اللحظةُ أو أجعلها
موتًا جديدا
هكذا ياعمرُ قد ضيّعتني طفلًا شريدا
مُدَّ لي خيطًا من الصّبح الّذي يحبو على كفّيهِ
مكسورَ الجناحْ
طائرُ الليل مضى
وانقضى ما كان من ومضِ الصّباحْ
وتعالى في المدى صوتُ احتكاكِ النّصْلِ
بالصّدر المدمّى
وتوالتْ كلُّ أنواءِ اليدين اليابساتْ
فارتحِلْ ياليلُ عند الملتقى
واقتربْ ياصبحُ
فالموعودُ آتْ.
«ومضة في مهبّ الزّمان»
أنادي … صدى الليلِ صوتي
ندائي بعيدٌ بعيدْ
كهمسٍ مهيضٍ بصدري الشّريدْ
أنادي على البعدِ وقعُ ندائي
انتظارٌ تألّقَ وعدًا وعيدْ
هنالك لانجمَ يُشرقُ في ذاتِ نفسي
فيهبطُ كالشّهبِ نحو المغيبْ
وأقتلُ بؤسي
لعلّ المرايا التي تتسرّى دمائي
تُخلّي مكاناً لطيفٍ حبيبْ
وحيدًا ويصحبُني الفجرُ
يرقى لرؤياي، يمضي
وينأى لعهدٍ قريبْ
أنا ومضةٌ في مهبِّ الزّمان
وأنتِ شعاعٌ يذوبْ
يقرّبُ مابين وهمٍ تبدّى
وبين احتمالٍ وحيدْ
لعينيكِ يمضي يحلّق كالوهج
فوق الدّروبْ
وتنأينَ عن راحتيّ وعنّي
وتنأى بكِ الرّيحُ نحو البعيدْ
وأتبعُ طيفَكِ في دربِ كفّي
وبين الأصابع يسعى
وينسلُّ في الرّيح مثلَ الغريبْ
أنا مائلٌ فوقُ كالغصن
والرّيحُ صنّارةٌ من لهاثٍ
يحفُّ بها الليلُ مثلَ التّباري
وتمتدّ مثلَ السّرابْ
كأنّيَ حقلٌ وتنقضُّ صحراءُ يوميَ
ما بين ليلٍ تردّى إلى قاع ذاتي
وبين نهارٍ تبدّى كما الهاوياتُ
تدبُّ الأمانيُّ مثلَ الثّواني
وتهمي النّداءاتُ نحو الأصيلْ
وأقطفُ من طيفِ ذكراكِ زهرًا
ليومٍ يجيءُ ولونَ الهديلْ
تعاليْ وخلّي اغترابَكِ
أيقونةً في جدار المساءِ
وخلّي الرّحيلْ
تعاليْ فإن المدى هائمٌ
والخميلاتُ جذلى
وتكتبُ سطرًا من العشق
نهرًا من الوجدِ
بعدًا يطولْ
تمرّين في خاطري كالنّسيماتِ
تدنو وتغربُ في غيهبٍ من ضبابْ
وألمحُ فيها ارتعاشَ الأمانيّ والذكرياتْ
تصاعدُ من لمحها والظّلالْ
خيالٌ من الوهم يَطفو
على شاطئ لايُطالْ
وينأى إلى واحةٍ من محالْ
غدًا حينما يسقطُ الوقتُ عن وقته والثوانْ
وفوق غصون الصّباح المؤرّقِ
يحبو شعاعُ اللقاءِ المصفّى
ويرحلُ مثلَ الزّمان
فيُطوى شراعُ الرّحيل
وتسري مع الوردِ صفصافةٌ من حنينْ
أجيءُ على وقع قلبي
وأحملُ دقّاته نحوَ عرش السّكونْ
تعاليْ فكلّ المواعيدِ قد هيّأتْ وقتها والغلالْ
ليوم يعودُ كما الطّيرُ
في موكبٍ من ظلالْ
تعالي فإن الأماسيَّ
تهفو على وقع أنفاسِها والجنونْ
تعاليْ تعاليْ
لعلّي أكونْ.
«حلم» (نثيرة)
هي عَبرةٌ في الثّرى
أم سحابةٌ في انحناءِ المساءْ
سافرتْ في الحنايا
وحطتْ رحالها في الذّرى
عند بابِ الفضاءْ
ليتها أسرجتْ خيلها البيضَ بالغيم
وأرختْ أعنَّة في الفضاءْ
لم تكنْ غيرَ ثورةٍ في امتدادِ الفصولْ
وعمرًا يُهرولُ عبر الحقولْ
وتذكارَ كفٍّ رعتْ نجمةً
تشعُّ قبيلَ اقترابِ الرّحيلْ
وتنأى كما الفجرُ في كلّ وادٍ
سراجًا تألّقَ قبلَ النّزاعْ
لماذا البيادرُ في كلّ عامٍ
تُلملمُ حبَّ السّنابلْ؟
ويَطحنُ هذا الهواءُ المنقّى
رمادَ الصّخور ووعدَ الأناملْ؟
لماذا لماذا؟وأيُّ احتمالٍ يُرجّى
وأيُّ سماءٍ تعودْ؟
تحرّكُ في كلّ عامٍ عظامَ الجدودْ
أعود إلى الحُلم في ربوةٍ
بنتها المُنى في الأعالي
وأومئ للغصنِ أن ينحني
ليكشفَ سرّ بقاء المسافرِ
عبر الرّمالِ
تُحدّثُ عنه شقوقُ الثّرى
ووهجُ الحصى في السّنين الخوالي
وجَدٌ ينامُ على صخرةٍ
يُظللُ عينيهِ فيءٌ كثيفْ
وقمحٌ تراقصَ في معصميهِ
وغنّى نشيدَ الرّدى للرّغيفْ