إصدارات في طرابلس: لص العنب

مقدّمة
قد يُسرع المرء – عندما تنصبّ عليه ضوضاء المدينة وزحامها دفعةً واحدةً – إلى الفرار والتّنحّي في جامدٍ إسمنتيٍّ علا على أطباقٍ أُخر ترفعه, فيسترخي موقظًا ذكرياتٍ أمضاها في زمن السّكينة والهدوء في قريته الوادعة, ويحلم لو تعيده الأيّام على بدئه, فتىً أرعن يجوب حرًا في مناحيها المترامية, يتنفّس عليل هوائها, ويعبّ نمير مائها, ويسيغ ريّان نباتها, ويلاحق طيور القرقفان ليستدلّ على عشًّ توارى خلف سياجٍ, أو فرخٍ تخفّى على فننٍ, أو «معشّة» داجنةٍ ضلّت طريق القبو, أو ثمرةٍ في طورها إلى النّضوج. وقد يسترسل المرء في أحلامه ويغوص, ليجد نفسه مستحضرًا أهل ضيعته وأنماط حياتهم من زرعٍ وضرعٍ وقدرةٍ على التّغلّب على مصاعب الحياة ووعورتها, وما يمتّ إليها من عاداتٍ وتقاليد وقيمٍ واستنباط ملاهٍ تشغل أوقات فراغهم وخاصةً في أيّام الشّتاء الطويلة المملّة, فيستعيد صور الذين كانوا أبطالًا لها, ويحيي بعض ما رسخ في ذاكرته من حوادث غريبةٍ أمست أمثالًا تختصّ بهم دون سواهم.
من هنا جاء كتابي الذي أحييت فيه بعض ما غبر من زمن طفولتي, وأضأت على بعض سجايا الفطريّين ونمط تفكيرهم, وبعض الحذقين في استغلال طيبة النّاس و«التّعليم» عليهم, وسردت بعض الأمثال وهي في طور أفولها إلى زوال.
المؤلّف
توفيق يوسف: الضنية في أبجديّة الذكريات
تحتارُ حين تقرأُ سيرةَ حياةِ قريةٍ كيف تبقى بعيدًا عن حضورِ كاتِبِهَا بين الأسطرِ وفي الكلمات؟ لكأّنَّهُ أمرٌ صعبٌ، فمن غيرِ الممكنِ أَنْ يَطْلَعَ الكاتبُ من عَبَاءَةِ أبجديةِ الذِّكْرياتِ، وأَنْ يُطلَّ من تحتِهَا إلى مَراَعٍ لا يَعْرِفُهَا، وإلى واحاتِ ماءٍ، نَضُبَتْ آبارُهَا.
«توفيق يوسف» لَـمْ يَخْتَرِعْ جديدًا، لكنَّهُ سَجَّلَ العتيقَ ليكونَ للجديدِ النكهةَ والحضورَ في حياتِهِ بعيدًا عن القريةِ التي نَشَأَ فيها، وَلَعِبَ بحِجَارَتِهَا، وَسَرَقَ عِنَبَهَا، وَشَارَكَ في الإغاراتِ على شَخْصياتِهَا وأَرْزَاقِها. تَبْرُزُ بوضوحٍ شيطنةُ «توفيق يوسف» فَهُوَ في سيرةِ قَرْيتِهِ بَطَلُ كِتَابِهِ وَصَانِعُ الأحداثِ فيه، سَواءَ في السَّهْلِ أو الجَّبَلِ، أو في البساتينِ أو في كرومِ العِنَبِ، فلا عَجَبَ إنِ اسْتَخْدَمَ المؤلِّفُ الضميرَ المتصلَ لينسبَ إلى نفسِهِ البطولاتِ الّتي كانَ يرى نَفْسَهُ فيها وإلّا لما بَقِيَتْ وَشْمًا في ذَاكِرتِهِ وفي قَلْبِهِ وَخَيالِهِ.
لقد حاولَ «توفيق يوسف» بأسلوبِهِ الرَّشيقِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ واقعِ القريةِ وَعَنْ الحكاياتِ فيها، وَعَنْ شخصياِتها وأبطالِها، واستطاعَ أَنْ يؤرِّخَ لمنطقةِ «الضنّية» والدُّروبِ الّتي مَشَى فيها قادوميَّةً، دَائِسًا على الحَصى وَمُتَعَثِّرًا بِأَلْفِ حَجَرٍ وَحَجَرٍ، وَقَافِزًا فَوْقَ أَسْوَارِ البساتين، قَبْلَ أَنْ تَذْهَبَ هذهِّ الطُّرُقِ وَتَخْتَفي مِنَ الواقعِ وَمِنَ الخيال.
لَمْ يَتْرُكْ «توفيق يوسف» تَفْصيلًا مرَّ في خَزَائِنِ أَحْلامِهِ إلّا وَتَوَسَّعَ فيهِ. لَمْ يَنْسَ مَثَلًا أنَّ «الإنكليز اجتثوا أَشْجَارَ الأرزِ واللزَّابِ والتنّوبِ والعفصِ»، كما لَمْ يَنْسَ حكاياتِ وبطولاتِ «أبو فتيلة» الّذي غَلَبَ عَليهِ «فتلُ» شاربيهِ عَلَى قَدْحِ عَقْلِهِ وَمَنْطِقِهِ في التَّعاملِ التِّجَاريِّ والاجتماعيِّ والجنسيِّ. وكيف ينسى المؤلِّفُ خُطَطَهُ لسَرِقَةِ عِنَبِ «أبو جريس»، كعاشقٍ أَضْنَاهُ الهجرُ؟ هذا ويلحظُ الكتابُ مجموعةً من الأمثالِ «الضنّاويّة» السائرة، حسنًا فَعَلَ المؤلِّفُ بِذِكْرِهَا وَلَو خَالَفَ بَعْضُهَا الذوقَ العام، لكنَّ شعبيتَها تَغفرُ لَهُ كتابتَها ،كما وَرَدَتْ، في محاولةٍ صادقةٍ لحِفْظِهَا مِنْ النسيانِ والاندثار، وَلربّما من هُنا جاءَ ذِكْرُهُ لقصص «جارنا» تأكيدًا مِنْهُ على أَنَّ الجارَ قَبَلَ الدّار، وأَنَّ إِكْرَامَ الضّيوفِ والسَّهرَ على راحةِ المارّةِ في القريةِ من مَبَادئ أهلِ القُرى الّتي لا يَسْبِقُهُم إليها أَحَدُ.
طَبَعًا لَمْ تَغِبْ صورةُ المرأةِ عن النّصوص، والمرأةُ في الجبل كالرَّجُلِ في عَمَلِهَا وانكبابِهَا على الزّراعةِ والفلاحةِ ورعايةِ أولادِها والسَّهرِ على راحةِ زوجِها، في إطلالةٍ أيضًا على الواقعِ الأسرويِّ، من الجدّة التي كانت «توقظُني في صباحاتِ المطرِ، وتقذفُني خارجًا من رقادي الدافئ قبالة الوجاق»، إلى دَوْرِ الأطفالِ الّذين تتلمذوا على يديّ عصفورةِ القرقفان، التضليلَ.
لقد سحرَتِ القريةُ المؤلِّفَ فَسَحَرَنَا مَعَهُ بِوَصْفِ موسمِ الحَصادِ في شهرِ تموز الّذي نَفْتَقِدُهُ اليومَ في الدساكرِ والقرى، وَقَدْ غَزَتْ الآلاتُ المواسمَ، واجْتَاحَتِ الفصولُ وأَخَذَتْ في طريقِها الخيالاتِ والجمالاتِ وأغاني الحصادين،كما موسمُ الثلجِ الّذي كان «له في جبالِنا متعةٌ لا يُدْرِكُها وصفُ شاعرٍ أو يراعُ أديبٍ، فَمَنْ قَرَأَ ليسَ كَمَنْ يَرَى. راحَتِ العاداتُ منذُ أَنْ دَخَلَ التلفازُ البيوتَ الجبليّةَ، إِذْ تَلَهَّى النَّاسُ «بتظبيطِ» بثِّ الصُّورةِ فـ «أبو أحمد على السّطحِ، وأم أحمد تُطِلُّ برأسِها من الشبّاك، وما بينهما حوارٌ يَخْرُقُ هَدْأَةَ الليلِ: زَبَطِتْ، لا ما زَبَطِتْ، يمين، شمال».
(جزء من نص أطول)
د. جان توما
لصّ العنب
إرتاب أبو جريس لأنّه أيقن أنّ عناقيد العنب ترتسم وشمًا في حقول عينيه لدى مروره من أمام العريشة، سيّما وأنّه ما مرّ يومًا من أمامه إلّا وألقى عليه التّحيّة رانيًا إليه بعينٍ واحدة .
كانت عينه الأخرى، تجنح منحى العناقيد المكوكبة بأكياس الخام الأبيض، المقندلة كمصابيح الليل، العامرة كأثداء البقر الحلوب، المتخمة معالفها بخلائط الحبوب.
في وقتٍ لم يكن في «كانون السّم» ما يغري أكثر من العنب «المكيّس» المستور من تطفّل الحشرات والعصافير و… صيبة العين.
أسرع أبو جريس إلى نقل فراشه قريبًا من الشّبّاك، وكوّر أذنيه حصرًا لتسترق السّمع ما إن يجنّ الليل.
لتبدأ الحرب الباردة بينهما، وكلاهما أحذق من الآخر ويرتاب ممّا يضمر له الآخر، ويقرأ ما يجول في خاطره على حدٍ سواء.
إمتحن ليلًا أبا جريس بأن ألقى حصاةً على العريشة وتخفّى خلف السّياج، ليشهد أنّ أبا جريس كان أسبق منها في التّموضع تحت العريشة… وأجلد.
حاول أن يستغلّ مشاركة أبي جريس في مناسبات الضّيعة وعرف الواجبات من مرضٍ أو عزاء أو قدّاس ليليّ، لكنّ ما يفكّر به الأول كان الثّاني قد نسيه من ذي قبل.
ليحبك يومًا مكيدته التي ما اعتاد يومًا أن يفشل في حبكه للمكائد.
انتهز فرصة ليلةٍ مثلجةٍ يكاد العصف فيها أن يشلّع ما عصي من عري شجر، ويكاد البرد فيها أن ينخر الأجساد حتّى لباب العظم، فأتى بخرقةٍ باليةٍ بلّلها وكوّرها وحشرها في أتّون «الدّاخون» وانتظر إلى أن اجتاحت الأدخنة فضاء البيت، ما أرغم عائلة أبي جريس بمجملها على البحث عن دوافع الإختناق الطّارئة، فتسلّق على العريشة واصطفى ما كان قد عاينه نهارًا واشتهاه من العناقيد المحجّبة المحبّبة.
قد أكون وكنت أنا من رسم لسرقة العنب هذه المرّة، وهذه المرّة فقط من عريشة أبي جريس، لأحتضن العناقيد كعاشقٍ أضناه الهجر، وأُسرع توًا إلى سبيل الماء الأوحد الدّافق على منهل «خالتي وهيبة» منهل الحارة، إذ لم يكن في الحارة إلّاه، وأعرّي العناقيد من حجابها أروم غسلها، فيتجلّد الماء عليها ويغلّفها من شدّة القرس، فيربو وزنها وحجمها أضعافًا مضاعفة، ما حال دون التهام حبّةٍ واحدةٍ منها.
أرغمني هيام أبي جريس على غير هديه من منزله على الفرار والتّلطّي في خربة «سعدة فيّاض» ، لأسترق سمع ما دار ما بينه وبين عابرٍ شاهدني فأقرّ واعترف له أنّني وراء الأذى وبالتّالي وراء السّطو.
إنطلق أبو جريس وبيده عصاه ونورٌ خافتٌ على الفور إلى بيت حمدي يوسف يشكو إليه الأمر.
(جزء من نص أطول)
«دبّ الضّنّيّة ما رقص»
مقولةٌ تداولتها ألسن الأجيال في الضّنّيّة ومحيطها بالتّواتر منذ مئات السّنين.
(…) يقول كبيرنا:
قد يكون قياسًا إلى لعبة «الجْريْد» في تاريخنا الحديث – وهذا يجانب الحقيقة – أنّ الوالي قد رغب في إنشاء مسرحٍ لرقص الدّببة في لبنان منذ مئات السّنين، يقابله حماسٌ لدى المواطنين في الإنخراط بمسرحه، علّهم يُكافأون بأرضٍ أو مالٍ أو جوائز أخرى.
وما أن غدا مسرح الوالي واقعًا على الأرض، حتى تهافت أبناء المناطق وانكبّوا على تدريب دببهم على الرّقص لمدةٍ طويلة، ونشط فيما بينهم تقصّي أخبار بعضهم بسرّيّةٍ تامّةٍ للإطّلاع على المراحل التي توصّلت إليها دبب المنافسين في الرّقص والحركات.
ليخلصوا بعد أن جمعوا معلوماتهم، إلى أنّ دبّ الضّنّيّة قد تجاوز كلّ الدّببة في فنّ الرّقص والإبداع بأشواطٍ بعيدة، وليتصّوروا نتيجةً مسبقةً أنّه هو من سيعجب الوالي، وأنّ وفد الضّنّيّة هو من سينال رضاه في النّهاية.
توافد المشاركون من كلّ المناطق إلى مسرح الوالي في اليوم الموعود، وكلّ وفدٍ يقود دبّه برفقٍ وتؤدةٍ وسياسة، وتحلّق المشاهدون حول المسرح المتقن، وتصدّر الوالي مكانًا عاليًا لئلا يحجب أحدهم عنه فصول الرّقص.
لكنّ وفد الضّنّيّة اشترط على الوالي أن يكون دبّه هو آخر الرّاقصين، لغايةٍ في نفسه خلفيّتها أنّ ما يرسخ في ذهن المشاهد هو المشهد الأخير، وبالتّالي سيكون أوّل الفائزين.
تقدّم الدّب الأوّل إلى المسرح، وشرع مدرّبه ينفّذ ما طبّعه عليه في زمن التّدريب، فنفّذ ما طُلب منه من قفزٍ ورقصٍ وحركاتٍ دون أدنى تلكؤٍ أو تقصير.
تقدّم الثّاني فالثّالث فالرّابع ف… العاشر، إلى أن حان دور دبّ الضّنّيّة.
بعد أن اعتلى هذا الدّب المسرح، وقف جامدًا دون حراك، وأدلى برأسه إلى الأرض وتسمّرت عيناه على التّراب، فتوجّس مدرّبه شرًا ممّا رأى.
شرع يلقّنه من فصول الدّروس ما عوّده عليه… ولكن دون جدوى.
ناوله قبضة حبوبٍ واراها في جيبه… ولكن دون طائل.
فكّ عِقد صرةٍ غلّف بها قرصًا من العسل ودفعها إلى فمه… ولكنه سيّان.
تريّث المشاهدون وعلى رأسهم الوالي لبعض الوقت، ومنحوه فرصة الرّقص والإستجابه، ولكنه رفض.
بدأوا يتهامسون فيما بينهم شماتةً ثمّ يجاهرون مردّدين لإحراج الوالي: «دب الضّنّيّة ما رقص».
إغتاظ وفد الضّنّيّة ممّا سمع من المشاهدين، واعتبر أنّ ما يردّدونه عارٌ بحقّهم ونقيصةٌ لكرامتهم، فأجابوهم حانقين على الفور: «من كبر عقلو».
(جزء من نص أطول)
أمثال ضنّاوية: «فحل بيت سركيس»
قديمًا، وقبل أن يستورد أجدادنا الأشجار المثمرة وأنواع البذار، كانت جلّ موارد رزقهم قائمةً على الرّعي، خاصةً في ظلّ بوار الأرض وانعدام جرّ المياه إليها لريّها وزراعتها.
وقلّما تجد عائلةً من العائلات – الغير المستخدمة من قبل الأغوات – إلا وتملك مئات الرّؤوس من الماشية من أبقارٍ وأغنامٍ وماعز.
وكون الرّعي ونتاجه كانا المصدر الوحيد للإرتزاق، كان الرّعاة مرغمين على العمل لتحسين النّسل والإنتاج، وكانوا خبراء باستكشاف الفحل الكفؤ بتسفيد الإناث و«تعشيرها».
لتتوحد الأنظار يومها على فحلٍ شرسٍ متينٍ مميّزٍ ضمن القطيع العائد لبيت سركيس، وليذيع صيت ذاك الفحل سريعًا، ولترغم صاحبه على تفريغه للسّفاد، ولتتحوّل الدّرب الموصلة إلى «البحصة» مضارب بيت سركيس إلى مضمار سباقٍ للرّعاة، يجرّون العنز خلفهم، يتسابقون لحجز دورٍ لهم للفوز في وثبة الفحل الصّباحيّة الأولى، إذ كانوا يعتقدون انّها أكثر نتاجًا من القفزات التي تليها. فتغدو الخربة المستورة خلف «بيتة» بيت سركيس أشبه بخليّة نحلٍ على امتداد النّهار، يتناوب الفلاحون على ولوجها مع عنزاتهم.
ما يجدر ذكره أنّ الفحل المفروز للسّفاد، تنتن رائحته ويفسد لحمه ويقسو، ويمسي غير صالحٍ للذّبح، ما يبرّر لصاحبه استيفاء بدلٍ نقديٍ معلومٍ عن كلّ سفاد عنزة.
الفحل الوحيد المرغم على تسفيد هذا الكمّ الفائض من العنزات، بقي «فحلًا» لفترةٍ محدودةٍ من الزّمن ثم بدأت قواه تخور مع توالي الأيّام، وصاحبه لا يعرف قلبه الرّحمة، فقد أعمت بصيرته الرّيوع العائدة من فحولة هذا الفحل الفالح. ويومًا بعد يوم، بدأ العجز يتملّك بمتانة الفحل حتى خارت قواه، ليصل إلى مرحلةٍ ساءت فيها قدراته على القفز والتّسفيد.
فكان إذا ما أُرغم على اعتلاء ظهر العنزة، يحصد حاصلين لا ثالث لهما: إمّا أن يهوي سريعًا إلى الأرض غارزًا أنفه بالتّراب، وإمّا أن ينقلب على ظهره وقوائمه الأربعة مرفوعةٌ إلى أعلى.ليتهامس الفلاحون فيما بينهم ويتغامزون على عجزه عن القيام بما أوكل إليه ، ويتوافقون سرًا على التفتيش عن فحلٍ آخر ينال إعجابهم ، فانفضّوا عنه قبل أن يهلك ويموت.
تناول الرّعاة الفحل في طريق عودتهم خائبين وفي مجالسهم بالهزء والسّخرية.
(جزء من نص أطول)