طرابلس لبنان - سياسية مستقلة

إصدارات في طرابلس: أضواء على كفتون

طُبع كتاب «أضواء على كفتون» في «دار البلاد للطباعة والإعلام في الشمال» والتصميم قامت به شركة Impress

شكر وإهداء

أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من قدّم لي المساعدة، وأخص بالشكر السيدة والمربية رنا عفيف جبور على ما قدمته لي أدبياً ولغوياً ومعنوياً.

أخص بالشكر الأستاذ نسيب زاهي عواد على تشجيعه ونصائحه لي.

كما أخص بالشكر المهندس شاكر جرجس كنعان على ما زودني به من معلومات. وأتقدم بالشكر والرحمة لجميع الذين غذّوني بالمعلومات وانتقلوا إلى جنة الخلد.

أهدي كتابي هذا إلى أهلي وأحبائي أبناء بلدتي الأعزاء تقدمة وبدون ثمن كما خدمتهم وأخدمهم وأنا مختارهم دون أي مقابل، كذلك أقدم لهم هذا الكتيب المتواضع كي يعلموا أشياء وأشياء عن قريتهم وعن أجدادهم الأوائل وطرق عيشهم: ولتحيا كفتون شامخة الجبين.

إدمون فارس

تمهيد

نحن في زمن انصرف كلياً للعلوم والتكنولوجيا والأسلحة المدمرة وغزو الفضاء الخارجي، لذلك كثيراً ما نطرح السؤال التالي:

ما نفع كتاب وضيع يتكلم على تاريخ قرية امتزج فيها الماضي بالحاضر، فيها الآثار والعائلات…؟

أقول وأجيب عن هذا السؤال إنه من أجل ذلك كتب المختار إدمون فارس كتابه علّه يعيد الإنسان المفطور على الخير والجمال إلى أصالته، عله يُعيد الإنسان إلى جذوره ليثبت بأرضه ويتذكر ماضيه. إنه موجه إلى كل من هجر الأرض والحياة القروية وأدار ظهره لعاداته وتقاليده.

أما وأنا التي كان لي الحظ بجمعه وملاحظته والتلذذ بمراجعته، تلبية لرغبة المختار، طبعاً هنا لا أتعمد تعريفه وهو الغني عن التعريف فهو ليس بكاتب ولا راوٍ ولا مؤلف وإنما ما قام بكتابته فيه جرأة ومحبة وتشبث بالأرض.

قليلون من يبحثون عن تاريخ قريتهم ليكون إرثاً عظيماً يتناقله الأبناء والأحفاد وها هو المختار يضع يده على المحراث ويقرر أن يسير باحثاً في تربتها وحجارتها في ماضيها وحاضرها وتاريخها…

إن نشأته القروية واتصاله بالقرية والانتماء إليها هي السمة الغالبة على فكره وأسلوبه، فقد حمل القرية في قلبه وفكره واهتم بجميع تفاصيلها من اسمها إلى موقعها وصولاً إلى آثارها حتى حط الرحال في كتاباته عند عائلاتها، كيف وصلت، كيف تجذرت… وختم كتابه المتواضع هذا بقصص تخبرك ان أروع ما في الحياة انها لا تنضب من العجائب والأخبار الطريفة والحكم العظيمة.

لقد كانت ساعات متعة للروح صرفتها في قراءة ما كُتب وإنها لراحة للنفس في أن يقرأ المرء ويعيد قراءة الصفحات البسيطة المؤثرة التي يفوح منها عبق الماضي.

رنا جبور

المقدمة

كان هدفي منذ ان بدأت أجمع المعلومات عن قريتي كفتون من المسنين كجدتي أم سابا وعمتي رشيدة وغيرهما. تاريخها وتراثها وعاداتها وضعتها في تصرف الآخرين مقيمين ومغتربين ليكون لهم من ماضي أجدادهم وتاريخ قريتهم دافعاً للبقاء والإنماء والصمود ولعودة المغتربين منهم.

أردت في كتابي المتواضع هذا أن أسلط الضوء على قريتي، تاريخاً وآثاراً، وعلى عادات العائلات التي سكنتها، ومن أين أتت هذه العائلات، وبعض القصص التي حصلت فيها…

إنها دعوة للالتفات إلى الوراء، إلى الماضي المليء بالأسى، إلى الحياة الشاقة التي عاشها أهلنا وأجدادنا عندما كانوا ينقلون المياه من نهر الجوز إلى منازلهم ومواشيهم. يقول المثل: «من نسي أصله لا أصل له».

يجب أن نفاخر ونعتز بالماضي ولا نخجل به ويجب علينا أن نعمل كل ما بوسعنا من أجل بلدتنا كفتون كي نسلمها لأولادنا وأحفادنا ناصعة البياض خالية من الشوائب والأحقاد تغمرها الألفة والمحبة والسلام.

وصيّتي لأولادي، ولكل من يقرأ كتابي هذا، إياكم والانزلاق في وحول الطائفية الهدامة. لا تمتثلوا لمروِّجيها، فهي لا تجلب لكم سوى الحقد والكراهية للآخرين. خلقنا الله من جبلة واحدة ولم يُفرِّقْ أحداً عن الآخر، أرسل لنا أنبياء وكل نبي أتانا بكتاب وكل كتاب يهدي إلى التوافق وليس إلى التفرقة.

أتانا السيد المسيح، له المجد، لم يبشر سوى بالمحبة، ومن أقواله: «أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا». ومن وصاياه التسامح، وليس الحقد.

قرأت الإنجيل المقدّس ولم أجد فيه عبارة واحدة تحرّض أحداً على الآخر. ثم انتشر بعده المبشرون في جميع أنحاء العالم للتبشير بالدين المسيحي، كثيرون منهم استشهدوا ولم يردّوا بالعنف بل بالتسامح ونشر السلام بالرغم من العنف الذي استعمل ضدهم.

ثم أرسل لنا النبي محمد عليه الصلاة والسلام، قدم لنا القرآن الكريم. قرأته لمرات عدة، لم أجد فيه سورة واحدة توصي بالكره سوى كره الشيطان فقط، ومن بعض ما قرأته فيه آية تقول }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{.

أيضاً في سورة البقرة }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ{، ومن سورة الزّخرُف }وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوني(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ{، }وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً{، ما أجمل هذه التعابير جميعها تدعو لعدم الخلاف والتقاتل.

ثم جاء دور رجال الدين من الطائفتين للقيام بتطبيق الشرائع والواجبات الدنيوية حسب كل طائفة.

ثم جاء الانشقاق والتشرذم، المسيحيون انقسموا إلى عدة مذاهب وكل مذهب يدّعي انه صاحب الحق، ليتهم يتذكرون تلك العبارة التي يكرّرونها بأفواههم أثناء القداس الإلهي وهي تقول «أبعد يا الله عن الكنائس الانشقاق»، ليتهم يطبقونها بالفعل لا بالقول.

كفتون: الإنسان والتاريخ

أصل التسمية:

تعود التسمية إلى الكلمة السريانية Kaftuna وتعني المحدب أو المقبقب. ويرجح البعض التسمية إلى Kaftanya وتعني العقد والقباب. وفي معجم أنيس فريحة معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية يكون معنى الاسم العقد في البناء أو قبة صغيرة.

موقعها:

بلدة وادعة هانئة قائمة على ذراع «الكورة» بين نهري الجوز والعصفور وهي الحد الفاصل بين قضاءَي الكورة والبترون. ترتفع كفتون عن سطح البحر بين 325م و350م، مساحتها تقدر بحوالي 333 هكتاراً، وتبعد عن العاصمة حوالي 72 كلم وعن طرابلس 40 كلم وعن مركز القضاء أميون 6 كلم.

أما لماذا اختار أجدادنا الأوائل، هذا الموقع المرتفع لإقامة القرية؟ وهو بعيد عن مصدر المياه. عوضاً من ان تُبنى القرية بالقرب من نهر الجوز؟ أو على ضفافه وهو المصدر الوحيد للمياه بالقرب منهم، فيمكن استنتاج ان اختيار سكان كفتون لهذا الموقع، لأنهم شعب مسالم يكره المشاكل ويبتعد عنها، فضّلوا تحمل الأعباء وتحمل مشقات نقل المياه من النهر مسافة كيلومترين تقريباً أو أكثر ومن ثم أورثوا هذا العبء الثقيل إلى أجيال وأجيال عديدة من بعدهم، قبل أن تصل مياه الشفة من نبع اسكندر في سنة 1966 لكل منزل.

أضواء على دير سيدة كفتون

دير سيدة كفتون الذي يقع على ضفة نهر الجوز يعود تاريخه للقرن الثالث الميلادي. بالقرب من دير السيدة يوجد دير مارسركيس وباخوس وهو امتداد لدير سيدة كفتون وبحسب اعتقادي ان تاريخ بنائه لا يقل كثيراً عنها وقد بُنيا على مراحل. أما القسم الباقي فيعود بناؤه للقرن السادس أو السابع وكان هذا الدير يتسع لـ 365 راهباً ويوجد مطحنة ضمنه لا تطحن سوى للرهبان فقط. وحسب قول علماء التاريخ، ان تاريخ بناء دير مارسركيس وباخوس يعود إلى القرن الثاني أو الرابع عشر وعندما بدأت اللجنة البولندية بإزالة الطلاء عن الجدران ظهرت الرسوم تحت الطلاء وتبين لي فيما بعد أن البزينطيّين، في القرن الثامن، اضطهدوا الأيقونات ودخلوا إلى الكنائس الأرثوذكسية وحطّموها، هذا ما يدل أن في ذاك الحين استبقوا الأمر ووضعوا الطلاء فوق الأيقونات هذا ما يدل أن هذا الدير قبل القرن الثامن وعمره يقارب عمر دير السيدة أي قبل القرن الخامس. طبعاً ومن دون أدنى شك فإن القرية وُجدت قبل الدير، ولكن لا يمكننا تحديد التاريخ بشكل دقيق.

زيارة البطريرك مكاريوس

تذكر مراجع ومصادر عديدة مرور البطريرك مكاريوس الزعيم بدير كفتون في زيارته لأبرشيات أنطاكية بين العامين 1648-1649، ولنا خبر تلك في المخطوط الذي دونه ابنه الشماس بولس ومنه ثلاث نسخ في موسكو ولندن وباريس. أما تاريخه فمن السنة 1669، وورد فيه ما يلي: «ورجعنا إلى البربارة وعاودنا إلى عبرين، وأتينا إلى دير كفتون وقدسنا فيه نهار الثلاثاء من الصوم المقدس ومنه عاودنا إلى مدينة طرابلس نهار الأربعاء ثاني يوم».

عائلات كفتون

لا شك أن للعائلات جذوراً أعمق بكثير من التي نسلّط الأضواء عليها وتاريخاً أبعد مما سنتكلم عليه لكن لا وجود لمدونات نستعين بها لنهتدي إلى أصول هذه القرية وأصول سكانها وعائلاتها وتاريخها القديم الأصيل، سامح الله من سبقونا بألفي سنة ولم يجرؤ أحد على ذكر قريته بحرف واحد. وإذا قلت ألفي سنة فلا أبالغ، ومما يثبت ذلك الناووس الذي اكتشف مؤخراً، والذي يعود إلى عهد الرومان، مما يدل ان كفتون قديمة العهد وكانت قائمة قبل مجيء السيد المسيح له المجد.

محدلة جدتي أم سابا

عند انتهاء العمل في إنشاء منزل المرحوم جدي أبو سابا سنة 1899 وكان اقترب فصل الشتاء وكان جدي قد كلف المعلم عازار من بلدة بقسميا بصنع محدلة للسطح حيث في ذلك الزمن لم يكن يوجد إسمنت لصب الأسطح كيومنا هذا كان يتم وضع مدٍّ من الأخشاب الضخمة ويضعون فوقها ألواحاً خشبية ثم يضعون فوقها طبقة من الأتربة البيضاء مع بعض التبن والقش الناعم لمنع التشقق ويحدلون بالمحدلة لمنع تسرّب المياه إلى الداخل.

كانت جدتي لجوجة الطبع كل يوم تقول لجدي «وين المحدلة الدني بدها تشتي بدنا المحدلة» يجيبها جدي «مكلّف أبو خطرة وعندما يصبح عنده فراغ يجلبها لنا ابو خطرة»، كان يقتني جملاً لنقل الأثقال، مرة على مرة نفذ صبر جدتي ولم تعد تتحمل أخذت قطعة حبل وذهبت إلى قلع الرقاقيات مقابل مطحنة الجوز فوق النهر حيث كانت المحدلة حزمت المحدلة وأتت بها إلى كفتون قبل ان تصل بها إلى المنزل شاهدها أنطونيوس أبو أديب وعديله جرجس كرم قال لها جرجس كرم «هذه المحدلة ثقيلة الوزن على مرور الزمن تهبط السقف عندكم بنصحك يا زوجة عمي كفي بها إلى سقف العقد عنا واجلبي المحدلة الموجودة عنا» فقبلت النصيحة وفعلت كما قال لها. ولكن كلمة يا زوجة عمي لا تذهب من فكري.

أقول هل عائلة كرم منفصلة عن عائلة فارس أم من نوع احترام الآخر كان ينادي جدي يا عمي كونه أكبر سناً؟ لا أدري.

قصص من الحياة

(…) ذكرنا سابقاً ان المرحوم مخايل السودا من مدينة الميناء، في يوم من الأيام، ذهب مخايل السودا إلى مدينة الميناء للاطمئنان على صحة أهله، فصادف في ذلك اليوم كانت الدولة العثمانية تجمع جميع الشباب في الميناء للذهاب بهم إلى سفر برلك.

وكان مخايل السودا في عداد الذين أخذهم العسكر العثماني، وعندما وصل رتل الشباب إلى ما بعد مدينة طرطوس انحرف مخايل السودا إلى خارج الطريق وبقي مختبئاً حتى ابتعدت القافلة عنه، ووقع الظلام، فنهض وعاد إلى كفتون، وسكن في الطابق السفلي لا يعلم به أحد سوى زوجته رشيدة، حيث كان يوجد في بتعبورة رئيس مديرية تابع للسلطنة العثمانية، وكان يخشى ان يتسرب الخبر، فيلقون القبض عليه، لم يعد يتمكن من العمل بمهنته، فقرر ان يصنع قباقيب، بدأ يصنعها ويرسلها مع ولده فؤاد البالغ من العمر أربعة عشر عاماً إلى أحد الحوانيت في مدينة البترون ويحضر ثمنها ليعتاشوا به بقي على هذه الحالة فترة من الزمن حتى اندحر الاستعمار وعاد إلى مزاولة عمله بحرية واطمئنان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.