« صورتي السرّية »
… إذاً، قُضِيَ الأمر، رحل عبدالمجيد الرافعي، ضمير طرابلس ورمز نضالها طوال أكثر من ستة عقود. رحل نائبها السابق، والمدافع الدائم عن الفيحاء وحقوقها ودورها وأحلام وطموحات أهلها.
رحل الحكيم، الطيب، المناضل الحقيقي، صاحب السيرة المشرِّفة والأيادي البيض، والإنسان المبدئي الذي حافظ على صلابته في أصعب الظروف.
رحل «عبدالمجيد»، وبقيت في أذهاننا حكاية حياة مليئة بالتضحية والمشاعر النبيلة، عنوانها الالتصاق بالناس، من كافة الطبقات والمشارب والمناطق والطوائف، والبحث الدائم عن حلول لمشكلاتهم، في مدينة مأزومة ووطن صعب وأمّة على فوهة بركان.
رحل وتبقى ذكراه حاضرة بعمق في وجداننا… لكن، إضافة إلى ذلك، تبقى لي، أنا شخصياً، صورة له (منشورة أعلاه) رافقتني منذ كنت في العاشرة من العمر حتى يومنا هذا.
وهذه الصورة كانت بالنسبة إليَّ، طوال السنوات الخمس والأربعين الماضية، شيئاً هاماً وثميناً جداً.
خبأتها في مكان آمن بعد دخول الجيش السوري إلى طرابلس في العام 1976. ورافقتني «بطريقة سرية» في رحلتي إلى الولايات المتحدة الأميركية لتلقي التعليم الجامعي في العام 1980، عابرةً معي كل حواجز «الردع» وصولاً إلى رجال استخباراتهم المنتشرين في المطار وحوله.
هذه الصورة أُخذت للرافعي في العام 1972، في منزله في أبي سمراء، مباشرةً بعد انتخابه نائباً عن طرابلس، في معركة شكّل فيها، بالنسبة إلى الكثيرين، شعلة ضوء تطلعاً نحو غدٍ أفضل، ومن أجل شيء من العدالة والكرامة، ومن أجل تحقيق البعض من الأحلام الجميلة.
وهذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي أخذتها معي عندما سافرت للدراسة، إلى جانب صور أهلي، وبقيت معي هناك طوال سنوات الدراسة الست، ثم عادت معي الى بلدي ومدينتي … وهذا هو معنى عبدالمجيد.
معناه أن تشعر أنه واحد من أهْلِكَ، وأن يكون «طبيبك» منذ عرفت الدنيا، وأن يكون صديقك أياً يكن عمرك، وأن تكون سيرته ومسيرته ومواقفه مصدر إلهام لكَ.
معناه أن يكون «جارَك»، الذي لطالما شاهدتَ سيارته المتواضعة (الفولفو الخضراء)، في الليل والنهار، تدور على «المناطر» المحيطة بمنزلكَ، والتي كان يسكنها الفقراء في أبي سمراء، معالجاً مداوياً مواسياً، بمحبة منقطعة النظير.
…ومعنى عبدالمجيد الرافعي، أن تنتظر إطلالته التلفزيونية الأولى، بعد انتخابه في العام 1972، ليتكلم في جلسة الثقة النيابية المخصصة لمناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس الراحل صائب سلام. معناه أن تنتظر (أنت ابن العشر سنوات) مشاهدته يلقي كلمته الأولى في المجلس، وكانت المرة الأولى التي تُنقل فيها وقائع الجلسات مباشرة على الهواء. معناه أن تنتظر دور عبدالمجيد في الكلام، فيأتي هذا الدور عند الواحدة فجراً، فتستمع إليه بفرح كبير، ثم تنام سعيداً مطمئناً أن عبدالمجيد بعد النيابة هو نفسه عبدالمجيد قبل النيابة.
هذا هو معنى عبدالمجيد الرافعي. أن ترى فيه، أينما كان، الحضور القوي والتمسك بالثوابت والكلام الواضح عالي النبرة دفاعاً عن حقوق الناس، والصدق والنوايا الطيبة والإرادة الصلبة والشجاعة.
… وهذه الصورة، التي خبأتها بين أوراقي الخاصة جداً، المحفوظة في الأمكنة الآمنة جداً، والتي رافقتني في حِلّي وترحالي، هذه الصورة هي أيضاً أول صورة تُنشر لـ«الحكيم» في جريدة «التمدن»، في آذار 2001، بعد التهجير القسري الذي فرضته عليه القوات السورية منذ العام 1983، وقد استمر هذا التهجير حتى العام 2003.
فلقد قررنا، في العام 2001، وفي ظل الوجود العسكري-الأمني السوري القمعي في لبنان، أن ننشر في الصفحة الأولى خبراً يخص الرافعي، فسارعتُ إلى إخراج هذه الصورة من «مخبئها» لترافق ذلك الخبر، ولتكون عنواناً لكسر جدار الترهيب الذي كان يمارس ضد أهل طرابلس. هذا هو معنى عبدالمجيد الرافعي.
… وهذه هي «صورتي السرّية».
… وها أنا أكشِف سراً جميلاً، رافقني لأكثر من أربعة عقود، وكنتُ له أميناً، وكنتُ عليه مؤتمناً، وكان لي خيرَ صديقٍ، وكان لي نِعْمَ رفيقِ طريق.
وداعاً «عمّو عبدالمجيد».